ــ السودان معروف بأنه وطن التسامح والصفاء الاجتماعي، ومن عادات السودانيون المعروفة إكرام الضيف والتنازل والتفاهم في جلسة تحت (راكوبة) كبير القوم وفي ضيافة القهوة يتناسى الجميع كل المرارات ويتم العفو والاعتذار والمصالحة، مهما كانت الارواح التي فقدت او الاموال التي ضاعت، وكأن لسان حالهم : (احتربت فسالت دماؤها … تذكرت اولي القربى فسالت دموعها)، هذه العادات والتقاليد والموروثات يبدو انها في طريقها للانحسار والفقدان، بسبب تأثيرات عوامل التطور الطبيعي والمعايشة لثقافات الشعوب الأخرى وتأثيرات العولمة الثقافية التي تهدف الى : صياغة ثقافة عالمية لها قيمها ومعاييرها لضبط الشعوب، وتمثل قناة من قنوات الغزو الفكري والاختراق الثقافي، الذي يسعى الى تشييد وصناعة نموذج ثقافي واحد هو النموذج الغربي، ويلعب الاعلام دوراً كبيراً في القرب او الابتعاد عن القيم والموروثات السودانية التي من المفترض ان نتمسك بها ونعض عليها بالنواجذ، وشكل الاعلام العالمي الاساس والرافد الرئيس في نشر اهداف العولمة الثقافية، والتي تتمثل في شيوع النمط الاستهلاكي الغربي عبر البرامج والأفلام، نشر ثقافة السوق (الربح السريع، الفردية، اللذات)، الغزو الفكري لتدمير القيم والاديان والحضارات المحلية .
ــ الوسط الرياضي في السودان والذي يمثل مرآة تعكس كل القيم والموروثات والمفاهيم الجميلة في المجتمع السوداني، يعتبر من اكثر الاوساط تأثيرا على ذلك المجتمع مقارنة بالأوساط الاخرى ولكل منها مساهمته في اعداد وتشكيل المجتمع، كان للوسط الرياضي رموزه التي تنال الاحترام والتقدير لدى الكبير والصغير، ولهم كلمة مسموعة ولشخصياتهم تأثير وبريق خاص ينبع من تأهيلهم الاكاديمي والثقافي، وحصيلة المعرفة الكبيرة في المجالات المختلفة والتي تجيء من وظائفهم المرموقة في ادارات الدولة المختلفة، فكان منهم اداريين على طراز رفيع من الوزراء و وكلاء الوزارات والمدراء العامين، ومنهم ضباط ذوي رتب رفيعة في القوات المسلحة والشرطة واجهزة الامن، وأطباء ومهندسون ومثقفون، وصفوة من رجال الرأسمالية الوطنية والتجار الذين نالوا ارفع درجات التأهيل في المجال الاقتصادي، كل ذلك الكم الكبير من الكفاءات انصهر في مجالس ادارات الاتحادات الرياضية والأندية، فأوجد مجتمعا فريداً ذو نكهة ومذاق خاص، حالياً صراعات مؤسفة على االإتحاد العام للكرة، ومؤتمرات صحفية للهجوم وتبادل الاتهامات، أو التبرؤ من الاتهامات، وهي صراعات كانت تعالج عبر الكبار ي الصالونات وجلسات المصالحة والمسامحة .
ــ رافق ذلك كادر اعلامي رياضي رفيع من نواحي التأهيل والمعرفة، والإلمام بفنون العمل الرياضي من تدريب وتحكيم وادارة رياضية، الشيء الذي ساعد في ان يجيء النقد الرياضي في شكل جرعة ثقافية ومعرفية للاعبين والمدربين والإداريين قبل ان يكون عرضاً لنتيجة المباراة وانحيازاً لفريق دون الآخر، وبالتالي كانت كلمة الاعلام الرياضي مسموعة لدى الجميع، وربما حتى في قيادة الدولة السياسية العليا، لمقترحاتهم البناءة والمفيدة النابعة من التصاقهم بالوسط الرياضي ومعايشتهم لهموم الرياضيين وآمالهم وطموحاتهم وبالتالي التعبير الصادق الامين عن تلك الطموحات ومعالجة السلبيات والتأكيد على الايجابيات .
ــ بالنسبة لنجوم الاندية الرياضية، اشتهر السودان وحتى وقت قريب بنبوغ اللاعبين اكاديمياً فكان منهم الاطباء والمهندسون والاقتصاديون وموظفي البنوك والأساتذة والفنانون، وتجد غالب لاعبي الفريق يتحدثون اكثر من لغة اضافية مع اللغة العربية، ولذلك كان سهلاً التعامل مع المدربين الاجانب الذين وفدوا بكثافة للعمل في الاندية السودانية، وكان اللاعب يلقب وينادى بالكابتن فلان لاغير، ويجد تقديراً واحتراماً من الاداريين والمجتمع، وهو في نفس الوقت سفيراً لاسرته اولاً ولناديه ثانياً يتحرك في المجتمع بخطوات محسوبة بدقة، علاقاته وسكناته وحركاته توزن بميزان العقل والأدب والاحترام، سجل معظمهم ان لم يكن جميعهم لانديتهم بدون مقابل مادي وان وجد لا يضعون شروطاً ولا سقفاً ولا يوجد وسطاء بينهم وبين النادي الذي اتوا اليه لممارسة الرياضة فقط لاغير، بجانب الغيرة والانتماء للنادي، فكم سالت دماء من نجوم ولعب آخرين مصابين لحاجة النادي اليهم، وكم ذرف الكثيرون الدموع عقب خسارة لبطولة او حتى مباراة عابرة .
ــ تغيرت الآن كل تلك المفاهيم للذين يعملون بالوسط الرياضي في السودان الا قليلا من رجال يمسكون على الجمر في مجالات الادارة والإعلام والتدريب واللاعبون انفسهم، ينذر الوضع الحالي بظهور علامات انذار لازمة رياضية ــ أمنية في القريب العاجل وليس ببعيد، اولى تلك العلامات انتشار التعصب للاندية بطريقة لم تكن معروفة من قبل، حيث رافق التشجيع السباب والإساءات ودفع الاموال لخلق حشود مؤازرة للاداري وليس للنادي، للدرجة التي أدت لوجود مجلسي إدارة لبعض الأندية، بجانب الاسلوب العنيف في التشجيع وخلع الملابس واشعال النيران في المدرجات والاتيان بحركات واغاني يغيب فيها بعض المشجعون عن الوعي، ثانياً انتشار مجموعات (قروبات) في مواقع التواصل الاجتماعي باسماء غريبة، ويتم عبرها تغذية المشجعين بمفاهيم ومصطلحات وعبارات تشجيع غير حضارية، بجانب حشد التأييد للاداري فلان نكاية في علان، الشيء الذي ينذر بوجود تنظيم وحشد قد يستغل من بعض المهووسين في تصفية الحسابات بين الاداريين في الاندية او مع اداريي الاندية الاخرى او مع الاداريين بالاتحادات واللجان التابعة لتلك الاتحادات، ثالثاً ظهور اتجاه لخلق بروفايل خاص لرؤساء بعض الاندية والاتحادات بأنهم ذوي قدرات خاصة وعلاقات لم تتوفر لغيرهم من الاداريين الآخرين، وذلك من خلال نشر صورهم داخل منازلهم وبمعية لاعبين وشخصيات اخرى، وهم يرتدون ملابس غريبة وتقليعات لا تتماشى مع قيم ومفاهيم المجتمع السوداني السوي .
ــ رابعاً اخطر علامات الانذار هي عدم احترام القانون والتفلت الواضح في الآونة الاخيرة ضد قوات الامن في الاستادات والتخريب للبنية التحتية الرياضية، ومثال لذلك الاشتباكات التي تمت مع قوات تأمين الملاعب والمنشآت الرياضية وادى الى اخراجها من بعض الاستادات واللعب بدون قوات تأمين، الاعتداء والتدمير المتعمد للمقاعد وغرف اللاعبين وتوعد المشجعين بعضهم البعض، الاعتداء على الحكام المحليين والدوليين بالقاء قارورات المياه وبالضرب المباشر من الاداريين والأجهزة الفنية واللاعبين والسجل اسود في هذا المجال، تخويف ومحاولة زرع الرعب في الاندية واللاعبين في مدن واستادات بعينها، بالإساءات والألفاظ النابيه وحشد بعض المهووسين لتركيز الهجوم على الاجهزة الفنية وإقالتها، والهجوم على اللاعبين ووصل الامر سابقاً الى الاعتداء واطلاق النار على بصات البعثات المغادرة لتلك المدن والتي اصبح السفر اليها مثل السفر الى بورسعيد المصرية، والخروج منها يتم تحت جنح الظلام، خامساً عدم الاحترام من بعض الاجهزة الاعلامية في مخاطبة السادة الوزراء ومسئولي الدولة الذين ما ان يخوضوا في امر رياضي او يقدمون دعماً لجهة ما حتى تنهال عليهم الاوصاف والنعوت، من شاكلة اننا نحذر فلان، ولا يمكن السكوت على تحركات فلان، وان فلان لا يملك الخبرة الكافية في ادارة هذا الأمر، ولماذا يقدم فلان الدعم لهذا النادي ويترك نادينا العريق، ولو كانت للوزارة والدولة اموال اولى بها الشعب … الخ، هذه نماذج من عبارات رائجة هذه الايام تستدعي وتنادي مشجعي كل نادي للتحزم وترصد المسئول الحكومي الذي يريد بناديهم الويل والثبور، وربما يصل الامر الى الاعتداء او استقالة المسئول تفادياً لمآلات الامور واحتراماً لنفسه وأسرته .
ــ تلك علامات الانذار التي أقرأها ويقرأها معي كثيرون في الوسط الرياضي وخارجه، والجميع مشفقون من حدوث ازمة رياضية ــ امنية تاكل الاخضر واليابس، ولن ينفع حينها اللجؤ الى الفيفا او الكاف، سوى كفكفة دموع الندم، في ظل نفور وابتعاد الكثيرون من العمل في مجال الاندية الرياضية والاتحادات، وانزواء اقلام واعلاميين ابتعادا عن المشاركة في تلك الازمة التي كأنها (مولد وصاحبه غائب)، وفي الختام لا اقول خلاص شطبنا، وليس لدي جاسوس في الحي لأعرف ماذا قال عن الازمة القادمة، ولكن تعصرني كبد الحقيقة، في البحث عن شريان رياضي للخروج من النفق المظلم الذي نتوه داخله الآن ولا بد من الخروج واستنشاق هواء السودان المتسامح والمتآلف .
• خبير ادارة الازمات والتفاوض بمركز الدراسات القومية