ديوان الضرائب.. التحول الرقمي في قلب الإصلاح المالي.

شكل التحول الرقمي في ديوان الضرائب واحدة من التجارب المهمة التي تستحق التوثيق، إذ تمثل نموذجا لكيف يمكن للتقنية أن تكون أداة إصلاح مالي واقتصادي حين تتوافر الرؤية والإرادة. فالضرائب ليست مجرد مورد مالي، بل منظومة بيانات دقيقة تعكس كفاءة الدولة في إدارة مواردها وعدالتها في توزيع الأعباء.
بعد اعتماد نظام التحصيل الإلكتروني رسميا في السودان، كان ديوان الضرائب من أوائل الجهات التي خضعت للاختبار العملي من قبل الفرق العاملة في مشروع الدفع الإلكتروني. وبعد دراسة شاملة للوضع القائم داخل الديوان، تبين أن الحاجة لم تكن مقتصرة على التحصيل الإلكتروني، بل إلى نظام ضريبي متكامل يعيد هندسة دورة العمل بالكامل، ويربط كل الإدارات والفروع ضمن منظومة واحدة، بهدف توسيع المظلة الضريبية وتحقيق العدالة في التطبيق.
تم طرح المشروع عبر عطاء عالمي مفتوح شاركت فيه شركات من عدة دول، وقد تشرفت برئاسة لجنة فرز العطاء ضمن كوكبة من وزارة المالية، والمراجع العام، وديوان الضرائب، بنك السودان. وبعد تمحيص دقيق استمر لأشهر، تم اختيار شركة ريشِفت الصينية المتخصصة في الأنظمة الضريبية والمالية والإدارية الحكومية ، وهي إحدى شركات مجموعة CNPC الصينية .
بدأت الشركة عملها بإشراف مباشر من اللجنة الفنية، وبفضل المتابعة اللصيقة من المدير العام عبدالله المساعد، تم توفير العتاد اللازم وتركيب الشبكات وبناء مركز بيانات عالي الكفاءة، مما أتاح بيئة تشغيلية متطورة. وقد لعب المهندس والخبير العطا دورا محوريا كمستشار فني ساهم بخبرته العميقة في توجيه العمل ومتابعة تفاصيل التطبيق، وكذلك المستشار د.هشام أحمد علي حتى اكتمل تنفيذ المشروع في معظم جوانبه.
واذكر التعاون الكبير الذي وجدناه من قيادات الديوان أذكر منهم دفار و فتحي ومهندس صلاح والاستاذة رجاء مديرة ديوان الضرائب بولاية الخرطوم.
رغم الجهود الكبيرة لم يكتمل التطبيق الشامل كما تم التخطيط له، بسبب الظروف التي مرت بها السودان لاحقا. وكانت الحرب الأخيرة من أكثر العوامل تأثيرا، إذ أوقفت العمل تماما في النظام رغم جاهزيته التشغيلية.
إلا أن التجربة لم تذهب سدى، فقد أرست أسسا علمية وتقنية يمكن البناء عليها مستقبلا.
الأمل معقود اليوم على إعادة تفعيل النظام حين تستقر الأوضاع، مع استصحاب المستجدات التقنية الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضريبية، وربط النظام بمنصات السداد والخدمات الحكومية الأخرى.
إنها تجربة ديوان الضرائب تؤكد أن التحول الرقمي ليس ترفا إداريا، بل ضرورة إصلاحية. وحين تتحول المؤسسات المالية من مجرد جباة للإيرادات إلى مؤسسات للبيانات والتحليل المالي، يصبح القرار الاقتصادي أكثر دقة وشفافية، وتتحقق العدالة الضريبية عبر التوسيع العادل للمظلة.
من ابرز دروس التجربة أن التكامل بين المؤسسات، والاعتماد على الكفاءات، والقيادة المؤسسية الواعية، هي مفاتيح النجاح لأي مشروع رقمي وطني.
ما أحوجنا اليوم، ونحن نعيد بناء ما تم تدميره، إلى استلهام هذه النماذج المضيئة التي تمهد الطريق نحو دولة رقمية عادلة وشفافة.
العمود القادم نتناول تجربة من تجارب المركز القومي للمعلومات مع خدمات الشرطة السودانية.
٢٧ أكتوبر ٢٠٢٥م.



