أورنيك (15) الإلكتروني… ثورة في نظم التحصيل المالي.

لم يكن مشروع أورنيك (15) الإلكتروني مجرد مبادرة تقنية، بل كان تحولا مؤسسيا عميقا في طريقة إدارة المال العام في السودان.
فمنذ عقود، ظل نظام التحصيل الورقي مثقلا بالثغرات، تائها بين تعدد النماذج وضعف المتابعة وضياع الإيرادات بين الواجهات والجهات. وعندما بدأ التفكير في التحول نحو النظام الإلكتروني، كان الهدف الأسمى حفظ المال العام وتحقيق الشفافية والعدالة المالية.
قاد ديوان الحسابات المشروع باقتدار ، وربانه هشام آدم مهدي، وتولى المركز القومي للمعلومات الجانب الفني ومركز النيل الجانب التنفيذي، في واحدة من أنجح صور التعاون المؤسسي بين مؤسسات الدولة، لخدمة وزارة المالية مالكة النظام.
وقد تشرفت حينها برئاسة اللجنة الفنية، التي ضمت فريق من المهندسين المهرة الذين أضاءوا ليالي الخرطوم بشاشات أجهزتهم وحماسهم الوطني، أذكر منهم – والذكرى هنا وفاء ورمزية– أبوكساوي، عمرابي، ابوبكر الخليفة، وشباب من وزارة المالية، وبنك السودان، والمركز القومي للمعلومات، ومركز النيل، يعملون ليلا ونهارا بعزيمة لا تعرف الكلل.
كانت البداية تحديا هائلا.. كيف نحول أورنيكا ورقيا إلى منظومة إلكترونية موثوقة تغطي السودان كله؟.
تحديات كبيرة أبرزها تغطية الشبكة ، ومقاومة التغيير ، وضعف الثقة .
إلا ان الإيمان بالفكرة وعبقرية التصميم للنظام صنع الفارق. فقد كانت الإرادة حاضرة، والرؤية واضحة، والمهندسين المهرة قادرة ،فتمكنا خلال فترة وجيزة من تطوير النظام وتوفير العتاد وربط الوزارات والولايات ومواقع التحصيل كافة، ليصبح الإيراد الحكومي يحصل ويتابع إلكترونيا في لحظته.
ولعل من الشواهد التقنية المبتكرة والمتفردة امكانية عملها في حالة وجود الشبكة أو إنقطاعها، وقام بتطوير النظام شباب من مركز النيل أذكر قادتهم هيثم شبور، مصعب جبرالله ، فضل ، و محمد عباس وعدد من المطورين الشباب والشابات المهرة تجاوز عددهم العشرات ..
وقد حظيت هذه التجربة بإشادة إقليمية ودولية، حيث فاز السودان بـالجائزة الذهبية من الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)، تقديرا لنجاحه في تطبيق مشروع التحصيل الإلكتروني وابتكاره في مجال الحكومة الرقمية.
وقد كنت حاضرا أيام ولحظات المنافسة التي خاضها شباب مركز النيل بقيادة مديره الفذ د. الوليد بشير، وبمشاركة د. بازرعة بري الذي قدم عرض المشروع بأروع ما يكون.
كانت المنافسة في العاصمة التايلندية بانكوك عام 2016م، ضمن فعاليات قمة الاتحاد الدولي للاتصالات، حيث شارك في المنافسة ممثلين لأكثر من سبعين دولة.
ورغم حدة المنافسة وصعوبتها، إلا أن قوة المشروع وأدائه المتميز وإمكانيات د. بازرعة العالية جعلتنا نحصد المركز الأول بجدارة، في لحظة تاريخية ستظل من أجمل محطات تجربتي.
لقد نقل المشروع الدولة السودانية من العشوائية إلى الانضباط المالي، ومن الورق إلى الشاشة، ومن الشك إلى اليقين.
ولم يكن النجاح مجرد نظام تقني، بل هو ثمرة تضافر العقول والضمائر التي آمنت أن المال العام أمانة.
واليوم، وبعد سنوات من إطلاقه، يظل أورنيك (15) الإلكتروني شاهدا على أن السودان يمتلك الكفاءات القادرة على الإنجاز متى ما توفرت الإرادة والبيئة الحاضنة.
ما أحوجنا ونحن نعيد بناء مؤسساتنا اليوم بعد دمارها إلى استلهام تلك التجارب الرائدة، التي أثبتت أن التحول الرقمي ليس حلما بعيدا، بل واقعا قابلا للتحقيق إذا ما توافرت العزيمة.
في المقال القادم من آفاق رقمية نتناول نظام ديوان الضرائب الإلكتروني، الذي شكل امتدادا لتجربة أورنيك (15)، وخطوة نحو توسيع دائرة التحول الرقمي في الإدارة المالية للدولة.
٢٥ أكتوبر ٢٠٢٥م



