
في خضم الحرب المستعرة في السودان، أصدرت مجموعة من القوى السياسية المناهضة للحرب مذكرة تصف الصراع القائم بأنه حرب بين طرفين: القوات المسلحة السودانية من جهة، وميليشيات الدعم السريع من جهة أخرى. هذا التوصيف، رغم بساطته الظاهرة، يثير تساؤلات جوهرية حول مدى دقته، ومدى تعبيره عن الواقع المعقد الذي يعيشه السودان. فهل الحرب فعلًا بين طرفين فقط؟ وهل يمكن اختزال المشهد السوداني بكل تعقيداته السياسية والاجتماعية والعسكرية في هذا الإطار الثنائي؟ وإذا كانت القوات المسلحة تُصنّف في هذه المذكرة ضمن خانة “الحركة الإسلامية”، فماذا عن الأطراف السياسية والمدنية والعسكرية التي تقف إلى جانبها؟ هل يُدرجون ضمن هذا التصنيف أيضًا؟ أم أن هناك انتقائية في التصنيف تخدم سردية معينة؟
المذكرة، التي يُفترض أنها تعبّر عن موقف مدني مناهض للحرب، تتجاهل عن عمد أو عن غفلة وجود طيف واسع من الفاعلين السودانيين الذين اتخذوا موقفًا واضحًا في دعم القوات المسلحة، ليس بالضرورة انحيازًا أيديولوجيًا، بل انطلاقًا من قناعة بأن ما يجري هو عدوان على الدولة السودانية ومؤسساتها. من بين هذه الأطراف نجد الحركة الشعبية – شمال بقيادة مالك عقار، التي تشارك في السلطة الانتقالية، وتحتفظ بموقف داعم للجيش في مواجهة مليشيات الدعم السريع. فهل تُصنّف هذه الحركة ضمن “الحركة الإسلامية” أيضًا؟ وإذا لم تكن كذلك، فكيف يمكن تفسير موقفها؟ هل هو موقف مصلحي؟ أم أنه نابع من رؤية سياسية ترى في مليشيات الدعم السريع تهديدًا وجوديًا للدولة؟
الأمر لا يتوقف عند الحركة الشعبية. فهناك أيضًا حركات مسلحة أخرى كحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، لم يكن مواقفها من الحرب ضبابياً. بالرغم من تاريخها المعروف مع الجيش السوداني ومناهضتها للحركة الإسلامية، فقد عبّرت عن دعمها الصريح للقوات المسلحة ومساندتها في ميادين القتال، ورفضها لما وصفته بالانتهاكات الممنهجة التي قامت بها ميليشيات الدعم السريع في حق الشعب السوداني. فهل هؤلاء أيضًا يُحسبون على “الحركة الإسلامية”؟ أم أن تصنيفهم يُعلّق حسب الحاجة السياسية؟
ثم هناك شخصيات مدنية بارزة مثل نبيل أديب، الذي لطالما عُرف بمواقفه الحقوقية والقانونية، والذي دافع عن مئات المئات من مناهضي حكم الحركة الإسلامية باستمرار فقط من باب النضال ضد النظام القمعي الإسلاموي، والذي لم يُخفِ قلقه من ممارسات ميليشيا الدعم السريع، وعبّر عن دعمه لمؤسسات الدولة في مواجهة التفكك والانهيار. فهل يمكن تصنيفه ضمن معسكر الإسلاميين؟ وإذا لم يكن كذلك، فهل يُعدّ موقفه باطلًا لمجرد أنه لا يتماشى مع سردية المذكرة؟
لجان المقاومة، التي كانت في طليعة الحراك الثوري، ليست كتلة واحدة، بل طيف واسع من المجموعات الشبابية التي تختلف في رؤاها ومواقفها. بعض هذه اللجان عبّر عن رفضه الصريح لانتهاكات مليشيا الدعم السريع، واعتبرها امتدادًا لحقبة القمع والانتهاكات، بل ودعموا الجيش السوداني بالكلمة والاستنفار، بينما اختار البعض الآخر موقف الحياد أو حتى الميل نحو خطاب “اللا طرفين”. فهل يُختزل هذا التنوع في موقف واحد؟ وهل يُسمح فقط للأصوات التي تتماشى مع سردية المذكرة بأن تُحسب ضمن “القوى الثورية”؟
أما حزب البعث السوداني، بكل أماناته وتياراته وشركائه، فقد اتخذ موقفًا واضحًا من الحرب، داعمًا للقوات المسلحة، ورافضًا لما وصفه بـ”العدوان على الدولة”. فهل يُصنّف الحزب، بكل تاريخه الوطني، ضمن خانة الإسلاميين؟ وإذا لم يكن كذلك، فكيف يمكن تفسير موقفه؟ هل هو خيانة للثورة؟ أم قراءة واقعية لمآلات الصراع؟
الإدارات الأهلية والطرق الصوفية، التي تمثل عمقًا اجتماعيًا وثقافيًا في السودان، عبّرت في بيانات ومواقف متكررة عن دعمها للقوات المسلحة، ورفضها لممارسات ميليشيات الدعم السريع في المدن والقرى. فهل يُدرجون ضمن “الفلول” أو “الظلاميين”؟ أم أن موقفهم يُهمّش لأنه لا يتماشى مع الخطاب المدني النخبوي الذي تتبناه بعض القوى السياسية؟
تيار الشرق، الذي لطالما اشتكى من التهميش والإقصاء، وجد في الحرب فرصة لإعادة طرح قضاياه، لكنه في الوقت ذاته عبّر عن رفضه لتحالفات ميليشيات الدعم السريع مع بعض الفصائل المسلحة. فهل يُحسب هذا التيار على “الطرف الخطأ”؟ أم أن قضاياه تُنسى بمجرد أن لا تتماشى مع سردية “الطرفين”؟
المفارقة الكبرى أن المذكرة، التي يُفترض أنها تعبّر عن موقف مدني جامع، تُقصي طيفًا واسعًا من القوى السياسية والاجتماعية التي لا تتبنى موقفًا عدائيًا تجاه القوات المسلحة. بل وتُسقط عنهم صفة “المدنية” لمجرد أنهم لا يشاركونها رؤيتها للصراع. هذا الإقصاء لا يخدم السلام، بل يعمّق الانقسام، ويُعيد إنتاج الثنائية التي تدّعي المذكرة رفضها.
محمد الحاج
١٧ ديسمبر ٢٠٢٦م




