(1)
آخر التقارير الدولية تشير إلى أن السودان أكثر البلدان الأفريقية في نسبة التضخم الإقتصادي (٣٢٤٪) وقد تجاوزنا زميابوي (250٪)، وأكثر البلدان العربية تضخماً وتجاوزنا لبنان (224٪) وسوريا (139٪) ، كان ذلك حصاد سياسة رعاها البنك الدولي ودعمتها قوي الحرية والتغيير في إجتماعها مع رئيس الوزراء السابق د. عبدالله حمدوك بمنزله أمسية ٥ نيسان أبريل ٢٠٢٠م، واناب عنها السيد إبراهيم الشيخ..
وفي تقرير مؤشر مدركات الفساد الذي اصدرته منظمة الشفافية العالمية للعام ٢٠٢١م حل السودان في المركز ١٦٤ من أصل ١٨٠ دولة تتذيلها دولة جنوب السودان، ومن الدول العربية فقد حل لبنان بالمركز 154 والعراق بالمركز 157، وليبيا بالمركز 172، واليمن بالمركز 174، والصومال وسوريا بالمركز 178، وهذه القياسات تتم من خلال قراءة موضوعية لأداء المؤسسات في الدولة وسلامة الأداء والإلتزام بالمعايير المحاسبية والمالية وسيادة حكم القانون، لقد كان حصاد الإدعاءات وإختطاف الوطن مؤلماً، مع ان هناك تقارير أممية تتحدث عن ورش عمل وإصلاح للمؤسسات وتطوير للقدرات.. لقد كانت مجرد بالونات كاذبة..
(2)
في تقرير تكاليف المعيشة للعام ٢٠٢١م، أشارت مؤسسة (cost of living)، أن الخرطوم من العواصم ذات التكاليف العالية للعيش، و أوردت ان تكلفة أسرة مكونة من ٤ أشخاص (دون إيجارات) تصل إلى 1963 دولار شهرياً، ومع قياس الإيجارات المساكن و للمواصلات فإن الخرطوم يصعب العيش فيها، وهناك تقارير مفصلة ودقيقة ويمكن الإطلاع عليها في موقع NUMBEO، وبالمناسبة إن مستوى العيش في دول مثل ليبيا وسوريا أرخص من السودان بكثير..
وإذا قرأت تصريحات وتسريبات عن مصادر صحفية، كما ورد في صحيفة الصيحة اليوم ١٩ شباط فبراير ٢٠٢٢م، أن قطوعات الكهرباء قد تصل إلى أكثر من ٢٠ ساعة في الصيف، ولذلك بسبب عدم الصيانة (عجز مؤسسات)، وسرقة معدات (فساد وغياب رقابة)، كل ذلك يعبر عن حالة التردي في الخدمات العامة، مع ان الكهرباء من دعائم الإنتاج..
أوقف مدير مستشفى إبراهيم مالك (وهو من المستشفيات المرجعية) قائمة رسوم جديدة فرضتها الحكومة على المترددين من المرضى، وارتفعت العمليات القصيرة من المجانية إلى ٣٠ الف جنيه (٦٠ دولار تقريباً)، وكذلك عمليات الولادة القيصرية، وارتفعت مقابلات الأطباء لأرقام فوق طاقة المواطن البسيط، فقد سخرت الحكومة سلطاتها للجباية، بينما موارد السودان الحقيقة مهملة..
(3)
تدهشني بعض التعبيرات الصحفية حين يتم وصف زيادة أسعار العملات الأجنبية بأنها (زيادة غير مسبوقة)، وهذا وصف مخادع، لإن هذا الوصف يجوز في حالة المراوحة، أي إرتفاع وإنخفاض، بينما أسعار الدولار بداية عام ٢٠١٩م ما بين ٧٠ جنيه وقد اقترب من ١٠٠ جنيه صعوداً وهبوطاً، ولكن حين يصل إلى أكثر من ٥٠٠ جنيه، فهذا أمر آخر، كارثة إقتصادية أو إنفراط عقد، وكما يسمى أكاديمياً بالتضخَم الفالت أو الفارط، لقد تقزمت المفردات أمام ضخامة الكارثة..
(4)
في أيلول سبتمبر ٢٠٢١م، سئل الرئيس اللبناني، ميشيل عون، عن الوضع في بلاده، فقال: نحن ذاهبون إلى جهنم، فما هو وصف الراهن السوداني، وكل الإحصاءات تشير إلى أن واقعنا أشد قتامة..
د. جبريل إبراهيم وزير المالية وصف موازنة عام ٢٠٢٢م، بأنها “واقعية، وتهدف لتحسين معاش المواطنين من خلال توفير حماية كافية لدعم الخدمات الصحية والتعليمية و الأسر المتعففة)، وأول قرار تم إتخاذه (الإستمرار في زيادة تعرفة الكهرباء)، ثم الخدمات الصحية ورفع اليد عن الوقود وغاز الطبخ..
وبعيداً، عن الأحاديث الفضفاضة، والأقوال الجزافية، فإن هذه الحال مأساوية، ومع إنعدام أفق سياسي وغياب الحكومة وزيادة الشقاق، فإن المستقبل القريب مخيف، والفريق اول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الإنتقالي الذي وعد أن يكون معاش الناس في أول إهتمامته تناسي ذلك الحديث، فللسياسة مواسم للمزايدة..
(4)
ومن دلالات غياب الحكومة هذا الإضطراب حول تعرفة خدمات الكهرباء والصحة وغاز الطهو، يتم إعلان الأسعار والرسوم، ثم يتم التراجع عنها أو التحايل عليها و
هذه المواقف تشير إلى أكثر من حقيقة :
اولاً: غياب مؤسسات الحكم، لإن مفهوم المؤسسية يقتضي إتخاذ القرار بعد تشاور وإكمال دورة المراجعة والبحث، ومن الواضح أن كل مؤسسة في الدولة تعمل بمعزل عن الآخرين..
ثانياً: غياب الحس السياسي والمسؤولية المجتمعية، حيث تحولت المؤسسات لأدوات جباية وتحصيل دون مراعاة لإنعكاس ذلك على حياة المواطن أو التأثير على العملية الإنتاجية أو حتى التحيزات السياسية..
ثالثاً: الإفتقار للقراءة الصحيحة لتاثير القرارات وأبعادها ودلالاتها..فهذه الزيادة جزء من تداعيات إجازة موازنة ٢٠٢٢م
رابعاً: إستمرار تدخل مجلس السيادة الإنتقالي، له ابعاد كثيرة، ومن أبرزها انه أصبح المجلس السيادي مرجعية إتخاذ القرار والحاضنة السياسية..
خامساً: شبهة إستغلال مؤسسات الحكم في إدارة الصراع، وبعض القرارات في توقيتاتها والضغط على المواطن، كأنما تهدف لتاجيج الشارع وتحريك قطاعات معينة..
خلاصة الأمر، أن هذه القرارات ستزيد من فقدان الحكم لثقة المواطن، وستهز صورة الحكومة والحاكمين، وما لم تتخذ قرارات حاسمة وحازمة، سيأتي وقت يتعذر فيه التراجع.. وكل هذه المؤشرات تكشف غياب الجهاز التنفيذي وهوان الحاضنة السياسية.. وهذا وضع محزن.. و مغامرة سياسية ودون إصطفاف وطني وإرادة حاسمة تتجاوز (غبش) المواقف فإن المآل هو تفكيك الوطن وتفتيت بنيته الإجتماعية وتبديد ثرواته.. اللهم لطفك بالسودان وأهله