الرواية الأولى

نروي لتعرف

هموم وقضايا / السفير د. معاوية التوم

بابنوسة: قلب كردفان الصامد… مدينة على خط النار وذاكرة السكة الحديد!؟

السفير د. معاوية التوم


بابنوسة (أحياناً تُكتب «أبنوسة») مدينة في قلب اقليم كردفان الكبرى ، بولاية غرب كردفان وسط السودان، تبعد نحو 670–700 كيلومتر جنوب غربي الخرطوم وتقع في حزامٍ مناخي استوائي. وعلى تخوم الحزام الرابط بين الغرب والجنوب، تقف مدينة بابنوسة كواحدة من أهم النقط الجغرافية والاستراتيجية في السودان. مدينة صغيرة في حجمها، لكنها ذات أثر كبير على حركة الاقتصاد، ومسارات النقل، وتوازنات التجارة، وشبكات الاتصال بين الشمال والشرق من جهة، والغرب والجنوب من جهة أخرى. في صمتٍ طويل، شكّلت بابنوسة الشريان الخفي الذي تمر عبره البضائع، وخطوط السكك الحديدية، والرحلات المدنية، وأحلام آلاف الأسر الباحثة عن الاستقرار. غير أن هذا القلب لم ينجُ من نزيف الحرب، فالتاريخ والاقتصاد والمجتمع جميعها باتت اليوم تواجه اختبار البقاء.
الأهمية العسكرية والاستراتيجية للمدينة
تكتسب بابنوسة موقعاً استثنائياً يجعلها واحدة من أكثر المدن حساسية في مسرح الحرب السودانية حالياً، وذلك للأسباب الآتية:
1. عقدة مواصلات إستراتيجية:
تعد بابنوسة أكبر تقاطع بري — وسككي تاريخياً — يربط بين دارفور، كردفان، النيل الأبيض، وعمق الوسط حتى الخرطوم. والسيطرة عليها تعني التحكم في خطوط الإمداد والحركة بين غرب السودان ووسطه.
2. البوابة الشرقية لغرب السودان:
تمثل المدينة نقطة الانتقال الحيوي من غرب كردفان إلى جنوب كردفان، ومنها إلى جنوب دارفور وشمالها. أي تقدم أو انسحاب في هذه المنطقة يُقرأ عسكرياً كمؤشر على إعادة تشكيل ميزان القوة غرب البلاد.
3. الحاضنة اللوجستية للقوات المسلحة:
كانت بابنوسة عبر عقود مركزاً لتجميع القوات وتحريكها نحو الجبهات الغربية. قربها من الحاميات الرئيسة في المجلد، والدلنج، والأبيض يجعلها محطة دعم وتموين حاسمة.
4. الطريق نحو مناطق النفط:
تقع المدينة على مقربة من أهم الحقول النفطية في السودان، خصوصاً هجليج وما حولها، مما يجعل السيطرة عليها جزءاً من أمن الطاقة وحماية البنية التحتية الحيوية.
5. التأثير على المعادلة القبلية والاجتماعية:
طبيعة تركيبتها السكانية وتماسها مع خطوط الترحال والمراحيل يمنحانها وزناً في الاستقرار المجتمعي. السيطرة عليها تُستخدم كرسالة سياسية-اجتماعية، وليست مجرد مكسب عسكري.
6. مفتاح تأمين خطوط التجارة والسلع الحيوية:
يؤدي استقرار بابنوسة إلى حماية خط الإمداد التجاري الرابط بين الأبيض – المجلد – الفولة، وهو خط ينعكس مباشرة على الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في كردفان ودارفور.
لذلك بابنوسة ليست مجرد مدينة على خط القتال؛ بل مركز ثقل إستراتيجي يتحكم في طرق الإمداد، والهندسة اللوجستية للحرب، وأمن الطاقة، ووحدة مسرح العمليات بين الغرب والوسط. لذلك فإن أي تحول ميداني فيها يحمل دلالات تتجاوز جغرافيتها إلى مستقبل موازين القوة في السودان كله، ومن هنا يأتي استهدافها بتركيز من قبل التمرد وأجندات مشروعه .
أولاً: مدينة بابنوسة… الموقع الذي يصنع الدور
تقع بابنوسة في ولاية غرب كردفان، على مسافة تقترب من 700 كيلومتر جنوب غربي الخرطوم. هي مدينة تشكّلت حول محطة السكة الحديدية التي مثّلت لسنوات محور الربط بين خط الأبيض–بابنوسة–واو، أحد أهم خطوط النقل التي ربطت السودان بجنوبه منذ بدايات القرن العشرين.
هذا الموقع لم يجعلها فقط محطة عابرة، بل حوّلها إلى مركز تجاري نشط يمد كردفان والولايات المجاورة بالسلع، ويستقبل منتجات المنطقة الرعوية والزراعية، ويعيد توزيعها عبر شبكة النقل القومية.
ورغم أن بابنوسة ليست بالمدينة الضخمة، إلا أن دورها يتجاوز حجمها الديموغرافي؛ فهي نقطة توازن بين مجتمعات المسيرية والحوازمة وبقية مكونات الإقليم، ومركز إداري وخدماتي لعب لعقود دور “المدينة التي لا تستغني عنها القرى”.
ثانياً: الأهمية الاقتصادية والتاريخية… بابنوسة التي صنعتها السكة الحديد

1.بابنوسة والسكة الحديد: علاقة تاريخية
يصعب الحديث عن بابنوسة دون استدعاء تاريخ السكة الحديد السودانية، إذ شكّل وصول القطار إلى المنطقة نقطة تحول، نقلتها من تجمع ريفي إلى مدينة قائمة ذات عبق في الذاكرة الجمعية.
كانت المحطة مركزاً لورش الصيانة، وعمال السكة الحديد، والخدمات المرتبطة بخطوط النقل. ولأن خط بابنوسة–واو كان شرياناً استراتيجياً، فقد ازدهرت حوله الأسواق والمخازن والدكاكين، وصارت المدينة نقطة عبور للآلاف من المسافرين يومياً.1

2.قاعدة صناعية وزراعية
شهدت الستينيات والسبعينيات طفرة صناعية وزراعية؛ فأنشئت مصانع الألبان ووحدات إنتاج الحليب المجفف، وهو مشروع ارتبط آنذاك بمحاولات الدولة لتعزيز صناعات مرتبطة بالمراعي الغنية في كردفان. الي جانب محصول الكركديه المشهور .كما انتعشت أسواق الحبوب والماشية، واعتمد التجار على بابنوسة كقاعدة تخزين وتصدير، خصوصاً مع قربها من مسارات الرحل وطرق القوافل التقليدية.

دور لوجستي يمتد إلى جنوب السودان
كانت المدينة بوابة مهمة لتجارة الحدود غير الرسمية مع الجنوب قبل الانفصال، ومع الزمن أصبحت ممراً رئيسياً للبضائع المتجهة لولايات جنوب السودان، لا سيما عبر خط السكة الحديد إلى واو.
هذا الموقع أكسبها أهمية إقليمية تتجاوز حدود السودان، وجعل استقرارها الاقتصادي مرتبطاً باستقرار الإقليم كله. لذا فان (أبنوسة) لما تحمله من ارتباط تاريخي ووجداني في نفوس اهل المنطقة والسودان ككل لها رمزية تتجاوز الجغرافيا .
ثالثاً: تأثير النزاعات المسلحة… من مدينة نابضة إلى مدينة تئن!
لم تعرف بابنوسة الحرب بوصفها حدثاً عابراً؛ بل عرفتها كقدرٍ ثقيل ظل يعود في مواسم مختلفة من تاريخ السودان. لكن ما حدث خلال النزاع المسلح الأخير، الذي شنته مليشيا قوات الدعم السريع كان أقسى وأعمق أثراً من أي مرحلة سابقة.3.

  1. مدينة على خط النار
    منذ اندلاع الحرب ( في أبريل 2023 )، تحولت بابنوسة إلى إحدى بؤر الاشتباكات المسلحة. تقدّم مجموعات مسلحة وعمليات قصف جوي ومدفعي أدّت إلى تدمير بنى تحتية حسّاسة واحتلال مواقع استراتيجية داخل المدينة. نتيجة ذلك شهدت المدينة اشتباكاتٍ متكررة وقطيعة في خطوط الإمداد. ومع اتساع نطاق الحرب التي ضربت السودان مؤخراً، تحولت بابنوسة إلى نقطة تماس بين مجموعات مسلحة متنوعة.
    شهدت المدينة عمليات عسكرية متكررة، وقصفاً مدفعياً، واشتباكات في أحيائها السكنية ومحيط محطة القطار. هذه التطورات لم تدمّر الأبنية فقط، بل دمّرت الشعور بالأمان، ودفعت آلاف الأسر إلى اتخاذ قرار الرحيل.
    تحولت بعض أحيائها إلى مناطق مواجهة مفتوحة، ما أدى إلى تعطيل كل مظاهر الحياة المدنية، من المدارس إلى الأسواق إلى المستشفيات، وجعلت المدينة تفقد رصيدها السكاني وحركتها التجارية النشطة.
  2. النزوح الجماعي… من مدينة مزدحمة إلى “مدينة أشباح”
    مع كل موجة قتال، كان النازحون يخرجون في اتجاه القرى الآمنة نسبياً أو إلى مدن الأبيض والفولة والمجلد.
    خلال أشهر قليلة، انخفض عدد السكان إلى أقل من نصفه، وتحوّلت شوارع بابنوسة الرئيسية إلى ممرات خالية إلا من آثار الدمار وبقايا المحال المغلقة.
    صور المدينة التي كانت تضجّ بالحياة تعكس اليوم مظهراً أقرب إلى “مدينة أشباح”.
    هذا النزوح الواسع ترتّب عليه انهيار النشاط الاقتصادي بشكل كامل تقريباً، وتعطل سلاسل التوزيع والتجارة واوجه النشاط الاقتصادي التي كانت تعتمد على استقرار الحركة في المدينة.
  3. ضرب البنية التحتية وتعطيل القطاعات الإنتاجية
    تضررت منشآت السكة الحديد، وتوقفت الورش عن العمل بسبب غياب العمال والخوف على حياتهم.
    مصانع الألبان ومعامل الإنتاج الزراعي أُغلقت أو تقلص نشاطها إلى حد التوقف، والأسواق التقليدية فقدت بضائعها وروادها.
    انقطاع الكهرباء والمياه وتضرر الطرق الداخلية زاد من صعوبة البقاء، حتى بالنسبة للقليل من الأسر التي فضّلت البقاء أو لم تجد وسيلة للنزوح.
  4. التأثير الإنساني… جيل يعيش في حالة صدمة!
    أطفال بابنوسة عاشوا تجربة قاسية: انقطاع التعليم، فقدان السكن، صدمات القصف، وتجارب اللجوء الداخلي.
    الكثير منهم يعيش اليوم في أماكن نزوح تفتقر إلى الغذاء والرعاية الصحية، مما يضع جيل كامل أمام خطر ضياع فرص التعليم والتطور النفسي والاجتماعي.
    النساء أيضاً كنّ الأكثر تضرراً؛ فقد تحملن عبء النزوح، وانعدام الدخل، وانقطاع الدعم المجتمعي الذي كانت توفره المدينة.
    أما كبار السن، فوجدوا أنفسهم في مواجهة واقع لم يكن مألوفاً في مدينة كانت لعقود رمزاً للهدوء والاستقرار والتعايش السلمي.
  5. أثر النزاع على الإقليم وعلى السودان كله تأثر غرب كردفان بشكل واسع بتعطّل مدينة محورية مثل بابنوسة. تعطّل الخط الرابط مع الجنوب يعني ارتفاع تكلفة السلع، وتراجع القدرة على الإمداد عبر السكة الحديد، وازدياد الاعتماد على طرق غير آمنة. كما أن تراجع إنتاج الماشية والحبوب في المنطقة بسبب النزاعات أثر على الأسواق في الخرطوم وكردفان وولايات أخرى، في بلد يعتمد كثيراً على منتجات الأقاليم في غذائه وتجارته. بابنوسة… مدينة يمكن إنقاذها رغم الانهيار الذي عاشته المدينة، فإن بابنوسة ليست قدراً ميؤوساً منه. إعادة الحياة إليها تتطلب ثلاثة شروط أساسية:
    1. وقف العمليات العسكرية بالكامل وإعادة تأمين محيط المدينة.
    2. إعادة تشغيل السكة الحديد بوصفها الشريان الاقتصادي الرئيس.
    3. برنامج عاجل لإعادة الإعمار يشمل:
      • ترميم الطرق ومحطة القطار.
      • إعادة تأهيل المصانع والأسواق.
      • برنامج دعم مباشر للنازحين للعودة الطوعية.
      • تدخل إنساني منظم يعالج آثار الصدمات النفسية والتعليمية على الأطفال وتفريغ الشحنة السالبة التي خيمت عليها.
      السيناريوهات العسكرية المحتملة
      بابنوسة—رغم تعقيدات المشهد—داخلها إلا أنها تتجه عملياً داخل نطاق أربعة سيناريوهات محتملة: محاولة اختراق وهو الأخطر ، صمود دفاعي، هجوم مقابل، أو تجميد ميداني. لكن المعطيات الحالية تُظهر أنها ما تزال عصيّة على السقوط، وأن تكرار مخطط الفاشر شبه مستحيل في ظل تموضع قوي للفرقة 22، وتحول القتال إلى استنزاف يرهق المهاجمين، الذين فقدوا الكثير من الميزات الميدانية، إضافة إلى تشتت قوات التمرد بين جبهات أخرى وحتمية وصول تعزيزات للجيش. لذلك تميل الكفة بوضوح إلى صمود القوات المسلحة وقدرتها على الانتصار ، فيما يدرك قادتها—ومعهم المساندون—أنهم لن يسمحوا مطلقاً بتمرير سيناريو الفاشر مرة ثانية.
      خاتمة
      بابنوسة ليست مجرد مدينة على هامش الأحداث؛ هي قلب إقليم كامل، وممر لوجستي مهم، وذاكرة تاريخية للسودان الحديث. وبها رئاسة الفرقة (٢٢) مشاه التابعة للجيش السوداني. قاعدتها الحصينة التي شكلت صمود هذه المدينة أمام المحاولات المستميتة للتمرد ومهاجمتها بالمدفعية والمسيرات في محاولة لإسقاطها. ولكنها برغم المعاناة تصدت لهذه المحاولات بجسارة الأمر الذي يدلل على رمزيتها.
      إن استمرار الحرب يعني استمرار النزف، لا لمدينة واحدة فحسب، بل للسودان كله.
      وإنّ إنقاذ بابنوسة اليوم ليس عملاً إنسانياً فحسب، بل هو استثمار في مستقبل الاستقرار والتنمية والتجارة بين الشمال والغرب والجنوب.
      وكلما تأخر وقف النار واستعادة الأمن، كلما أصبح الطريق إلى التعافي أطول وأكثر تعقيدا.
      ⸻—-
      ٢١ نوفمبر ٢٠٢٥ م

اترك رد

error: Content is protected !!