✍️ د. خالد محمد فرح
رحم الله تعالى الفنان الكبير الشامل ، والعبقري المتفرّد ، الأستاذ عبد الكريم الكابلي ، الذي أسال رحيله الفاجع مؤخراً ، دموعاً غزيرة ، وأحباراً كثيرة أيضا ، أهريقت من داخل السودان وخارجه في تأبينه ، والاعراب عن الاسف الممض على فراقه ، وخصوصاً من أجل بيان مكانته السامقة في دنيا الفن والثقافة والابداع ، مما جعله إحدى مفاخر السودان الساطعة ، التي يزهو بها بين العالمين في هذه المجالات ، وخصوصاً في مجال فن التطريب والغناء.
لقد أطنب سائر الكتاب وأجادوا في بيان عبقرية الفنان عبد الكريم الكابلي ، وغزارة علمه ، وسعة ثقافته وتنوعها ، وملكته الفذه في نظم خرائد الشعر الغنائي وتلحينها، ووضع الموسيقى الراقية للعديد من الاغنيات الخالدة له ولغيره من المطربين ، كما أشاروا إلى دأبه واجتهاده في بعث مختلف انماط التراث الغنائي والشعري التقليدي في السودان ، وأدائه المعجب لها ، فضلاً عن اختياراته الباذخة وادائه المدهش لباقة من عيون قصائد الشعر العربي الفصيح سواء كانت لشعراء سودانيين ، أو لسواهم من الشعراء العرب القدامى منهم والمعاصرين.
بيد أنني أودّ من خلال هذه العجالة أن الفت الانتباه الى خصيصة أساسية ومهمة ، تميز بها أداء الاستاذ عبد الكريم الكابلي للالحان التي تغنى بها عموماً في تقديرنا ، ألا وهي ميله الواعي الى التنغيم الحاكي للمعنى ، أو إبراز الحالة النفسية او الشعورية التي تعبر عنها الكلمات المغناة ، اًي تصوير مقتضى الحال بصفة عامة.
لقد سبق لي في الواقع أن نشرت مقالا قبل ما يزيد عن العشرة أعوام بعنوان ” في الألحان الحاكية المعنى ” ، تناولت فيه هذا المفهوم بصفة عامة ، حيث تتبعت فيه هذه الظاهرة ، من خلال عدد من الاعمال الغنائية السودانية التي تجلت فيها عبقرية التلحين ، لأن الحانها قد عمدت في بعض مقاطعها ، الى تصوير المعنى الوارد في النص الشعري وتجسيده تجسيداً بديعاً يكاد يحسه المتلقي إحساساً ملموسا ، مما يعظم الاثر الفني الكلي للعمل الغنائي المعني. ولا شك في أن تصوير المعنى بالنغم أو الموسيقى ، غاية فنية سامية ، يسعى لبلوغها كل ملحن ومؤدٍ جاد بصفة عامة.
وكنت قد ذكرت في ذلك المقال ، مثالاً على عبقرية التلحين الحاكي للمعنى ، رواية حكاها لي مرة صديقي العالم و الاكاديمي الضليع ، والاديب الأريب الدكتور الصديق عمر الصديق ، مدير معهد البروفيسور عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم ، نقلاً عن قريبه المهندس الإذاعي الراحل ” علي عبد القادر ” ، مفادها أن الفنان الرائد الكبير ابراهيم الكاشف ، كان في أول عهده ، يؤدي المقطع الذي يقول: ” أذكر جلوسنا على الرُبى … نستعرض أسراب الظبا ” ، من رائعة الشاعر عبد الرحمن الريّح ” رسائل ” ، أو ” حبيبي أكتب لي وانا أكتب ليك ” ، كان يؤديها في أول الأمر كما قال ، بنغمات سريعة ومتحفّزة ، وذلك بسبب جهله لمدلول كلمة ” رُبَى “. ولكن الكاشف ، تواضعاً منه ، واحتراماً لفنه ومستمعيه ، وتوخّياً لإصابة دَقّة المعنى بالنغم الذي يلائمه ، لم يستنكف من أن يسأل ذلك المهندس من معنى كلمة: الرُبَى ، فلما أخبره أنّ معناها هو: النجود والمرتفعات والتلال الخ ، عدل إبراهيم الكاشف عن ذلك اللحن السريع المتحفز ، إلى نغمها الحالي ذي النفس الطويل والممدود ، الذي يعبر عن معنى الارتفاع: أذكر جلوسنا على الرباآآآآآ … نستعرض أسراب الظباآآآآ.. الخ.
ومن بين النماذج الرائعة الدالة على تجسيد المعنى عن طريق النغم في روضة الغناء السوداني الحديث أيضاً ، تجلّي عبقرية الفنان محمد الأمين ، في تنغيمه الباكي والحزين لمفردة ” النحيب ” في أغنية ” وحياة ابتسامتك ” ، حيث عمد ببراعة إلى تجسيد معنى النحيب بالتنغيم فقط على هذا النحو:
تشهد الأيام
يشهد الليل والنحيب
والنحيب … أييييييييب !!
فكأنه ينتخب هو نفسه.
أما الفنان الراحل الكبير عبد الكريم الكابلي ، فنعتقد أن هذه الخاصية أو السمة الفنية والأدائية المميزة ، تتجلى في مجمل تراثه الغنائي بصورة واضحة ، على نحو ما سنوضحه للتو عبر نماذج قليلة تمثيلية فقط ، وغير استقصائية باي حال من الاحوال.
ففي أغنيته ” زيد في صدودك ” – على سبيل المثال – يعمد الكابلي إلى تضخيم صوته بصورة ملفتة عند لفظه لكلمة ” الكبير ” التي ترد في المقطع:
زيد في صدودك
وانا أسهر كتير
ما تقلل غرورك
أنا شايفك أمير
أمير عليّا وعلى قلبي ” الكبير “.
وانما فعل الكابلي ذلك في تقديرنا ، لكي يصبغ هذه الكلمة ويلونها ويشحنها بظلال ومعاني الكبر المقصود.
وفي أغنية ” كل الجمال يا غالي ” ، يكاد الاستاذ عبد الكريم الكابلي يضحك هو نفسه ، عندما يشدو بهذه الاغنية ، وذلك حين يقول: ” ووين رنين الضحكة ! “.
أما في أوبريت مروي ، فيبلغ الكابلي شأواً عظيما في عبقرية التلحين الحاكي للمعنى ، عندما يصل في الاداء الى المقطع الذي يصف إحدى حسان مروي:
تحكي خطو الريمة العايرة
على نعم الساقية الدايرة
تغني ليها تقووول .. اووووووول
والله ظلم علينا ظلم يا ناس القوز علينا ظلم
والشاهد هو تنغيمه للفعل ” تقول ” في المقطع السابق ، فإنه يحاكي فيه بالفعل ، صوت أنين الساقية ، وصرير أخشاب حلقتها وهي تنوء بحمل القواديس المملوءة بالماء.
وأخيراً ، لا يقتصر هذا التنغيم الحاكي للمعنى عند الكابلي ، على الأغنيات المؤلفة باللهجة السودانية العامية ، وإنما يقابلنا حتى في بعض الاغنيات المكتوبة باللغة العربية الفصحى ، مثل رائعة الحسين الحسن: إني أعتذر ، أو ” حبيبة قلبي تفشّى الخبر “.
ويتجلى ذلك – على سبيل المثال -في أداء الكابلي للبيت:
وهَوّمتُ حتى تبدّى أمامي
ظلامٌ رهيبٌ ، كفيفُ البَصَرْ
والشاهد هو ان هذا الفنان الاستثنائي ، يعمد في أدائه لهذا البيت ، الى محاولة تجسيد هذه الصورة الشعرية ، بما فيها من التهويم والظلام الكثيف وهلم جرا ، ولعمري فإنه ينجح في تلك المحاولة نجاحاً باهرا ، حتى ليكاد المرء يحس بهذا المعنى ماثلاً أمامه.
وبالجملة فإن أداء الكابلي لهذه الاغنية كلها من حيث اللحن والموسيقى وخصوصا التنغيم ، مفعمٌ بالشجن الذي يجسد معاني التودد والضراعة والاعتذار والتوسل الباكي للحبيبة لكي تغفر للشاعر تفشي ذلك الخبر بالرغم منه.. تأمّل إن شئت مثلا تنغيمه للفظة ” المنكسِر ” في البيت الذي يقول:
فعدتُ تذكّرتُ أن هواك
حرامٌ على قلبيَ المنكسر
فإنك تكاد تلمس انكسار ذلك القلب لمسا.
تغمد الله الاستاذ الكابلي بواسع رحمته ومغفرته ، وأكرم نزله عنده في جنات النعيم.