
في لحظة تاريخية فارقة، يقف السودان على مفترق طرق، تتنازعه رؤيتان متصارعتان، كلاهما فشل في بناء الدولة، وكلاهما يتعامل مع الوطن كإرث خاص، لا ككيان سيادي مشترك. من جهة، الحركة الإسلامية التي اختطفت الدولة منذ انقلاب 1989، وحوّلتها إلى مشروع أيديولوجي شمولي، ومن جهة أخرى، قوى الحرية والتغيير التي قادت ثورة ديسمبر، لكنها سرعان ما وقعت في فخ الشعارات، وأعادت إنتاج ذات النخب التي ثار عليها الشعب. وبين هذين المسارين، يظل المسار الثالث غائبًا: المشروع الوطني المستقل، القائم على أجندة وطنية خالصة، لا حزبية ولا أيديولوجية، ولا مرتهنة للخارج.
الحركة الإسلامية، ممثلة في المؤتمر الوطني، لم تكن مجرد حزب سياسي، بل منظومة تسعى إلى إعادة تشكيل المجتمع والدولة وفق تصور ديني مغلق، لا يحتمل التعدد ولا يعترف بالاختلاف. تم تسييس الدين، وتفكيك مؤسسات الدولة، وتحويل الاقتصاد إلى شبكة فساد منظم، وتغوّلت الأجهزة الأمنية على المجتمع، في مشهد يعكس استبدادًا ممنهجًا. أما قحت، فقد دخلت مرحلة الحكم وهي مثقلة بالشعارات، لكنها خالية من أدوات الفعل السياسي الحقيقي، وبدلًا من بناء مؤسسات الثورة، أعادت إنتاج تحالفات حزبية تقليدية، وتجاهلت الشباب الذين قادوا الحراك، وافتقرت إلى رؤية واقعية لإدارة الدولة.
ثم جاءت حرب 15 أبريل 2023، لا كحدث عابر، بل كنقطة فاصلة في تاريخ السودان الحديث. هذه الحرب، التي تم التخطيط لها بعد فشل محاولة انقلابية مدعومة من مراكز بحثية إماراتية، كشفت أن الصراع لم يكن داخليًا فقط، بل جزء من مشروع خارجي يسعى إلى تفكيك الدولة السودانية من الداخل، عبر استخدام قوة عسكرية محلية لتفتيت القوات المسلحة، وإعادة إنتاج نموذج انهيار الجيوش الذي شهدته المنطقة في العراق وليبيا وسوريا. لكن السودان، الذي قاوم الاستعمار والانقلابات، رفض أن يكون ساحة لتجارب غرف مكيفة في أبوظبي، حيث تُصاغ سيناريوهات هندسة المجتمعات بنفس منطق بناء الأبراج الزجاجية.
من السخرية أن تتحدث دولة تُدار كملكية مطلقة عن دعم التحول الديمقراطي في السودان، وهي لم تختبر يومًا نظامًا ديمقراطيًا، ولم تعرف معنى التداول السلمي للسلطة. كل التصورات التي خرجت من هذه المراكز، من دعم تشكيلات عسكرية موازية إلى محاولة فرض قيادات سياسية عبر المال والإعلام، فشلت فشلًا ذريعًا، لأن السودان ليس قابلًا للقولبة، وشعبه لا يُخضع لإرادة الخارج مهما تنوعت أدواته.
في خضم هذا الانهيار، يتأكد أن لا بديل للجيش إلا الجيش، لا بوصفه أداة سلطة، بل كحاضن لوحدة البلاد، وضامن لسيادتها. الجيش السوداني، رغم ما تعرض له من محاولات اختراق وتسييس، ظل متماسكًا، ورفض الانهيار، وأثبت أنه المؤسسة الوحيدة القادرة على حفظ كيان الدولة، إذا ما تم إصلاحه وتحريره من الولاءات الحزبية. لا يمكن أن تُبنى دولة حديثة دون جيش وطني موحد، ولا يمكن أن تُحمى السيادة دون مؤسسة عسكرية تنتمي للوطن، لا للنخب ولا للمحاور.
رغم التناقض الظاهري بين الإسلاميين وقحت، فإن كلا الطرفين يتشابه في طريقة التفكير والتعامل مع السلطة. كلاهما يرى نفسه الأحق بالحكم، ويستبعد الآخر، ويتعامل مع الشعب كمجرد أداة تعبئة، لا كمصدر للشرعية. الإسلاميون يعتقدون أن لهم “السبق التاريخي”، وقحت ترى أن لها “الشرعية الثورية”، وكلاهما يستخدم الخطاب العاطفي، ويتحرك ضمن دوائر ضيقة من المصالح، بعيدًا عن الواقع الشعبي.
لكن هذه الحرب، رغم قسوتها، قد تكون لحظة ولادة جديدة. لحظة يتجاوز فيها السودانيون عنترية النخب، ويؤسسون لوطن لا يُحكم بالشعارات، بل بالمؤسسات؛ وطن لا يُبنى بالوصاية، بل بالإرادة الشعبية الحرة. وهنا تبرز الحاجة إلى المسار الثالث: مشروع وطني مستقل، لا يعيد إنتاج الإسلاميين ولا يكرر إخفاقات قحت، بل يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية، قائمة على المواطنة المتساوية، والعدالة الانتقالية، وإعادة بناء المؤسسات على أساس الكفاءة لا الولاء.
المسار الثالث ليس تنظيرًا سياسيًا، بل ضرورة تاريخية. هو المشروع الذي يضع السودان أولًا، ويستند إلى أجندة وطنية خالصة، لا تمليها العواصم ولا تحددها مراكز بحثية أجنبية. هو المسار الذي يعيد الاعتبار للمؤسسات، ويمنح الجيش دوره الطبيعي كضامن للوحدة، ويعيد تشكيل السلطة على أساس الإرادة الشعبية، لا على أساس المحاصصة أو التبعية. هو المسار الذي يرفض أن يُحكم السودان باسم الدين أو باسم الثورة، بل باسم الوطن فقط.
إن العبرة من تفكيك الجيوش في المنطقة واضحة: لا حرية بلا أمن، ولا ديمقراطية بلا مؤسسات، ولا سيادة بلا جيش وطني موحد. السودان، الذي نجا من هذا المصير حتى الآن، يملك فرصة تاريخية لبناء دولة حديثة، إذا ما أدرك أن الولاء يجب أن يكون للوطن فقط، وأن الجيش هو العمود الفقري للدولة، لا خصمًا لها. فهل يملك السودانيون الشجاعة لتجاوز الماضي، واستعادة المسار الثالث المفقود؟ أم أن الطريق لا يزال طويلًا، ويحتاج إلى ثورة مجتمعية سلمية عميقة، تعيد تشكيل الوعي قبل أن تعيد تشكيل السلطة؟
محمد الحاج
٢٦ يوليو ٢٠٢٥ م
Kumburgaz su kaçak tespiti Arnavutköy’de su kaçağı vardı. Uzman ekip sayesinde sorunumuzu hızlıca çözdük. https://sociol.co/read-blog/7879