المحددات الأربعة وغياب الشرعية الرباعية:قراءة في أسباب تهاوي مقترح الهدنة بالسودان!؟

منذ اندلاع الحرب في السودان، ظلّت القيادة السودانية متمسكة بمبدأ أساسي: أن أي وقف لإطلاق النار لا يمكن أن يكون غاية في ذاته، بل وسيلة لإنهاء الحرب على أسس تحفظ سيادة الدولة ووحدتها وأمنها القومي، وتمنع تحويل “الهدنة” إلى مظلة تُكرّس واقع الانقسام وشرعنة الميليشيات. وفي هذا السياق، برزت المحددات الأربعة التي وضعتها القيادة السودانية – ممثلة في مجلس السيادة والقوات المسلحة – كمرتكزات لأي نقاش حول هدنة أو وقف إطلاق نار، بالتوازي مع تحفظات عميقة على ما يُعرف بـ”الرباعية” التي طرحت مقترحاتها خارج الإطار المؤسسي الرسمي، ومارست وصاية على الدولة.
أولاً: جوهر المحددات الأربعة
تكثّف المحددات الأربعة رؤية الدولة في بنود واضحة لا تقبل التأويل، وتؤكد أن أي عملية سياسية أو إنسانية يجب أن تنطلق من أساس أمني منضبط يضمن عودة الأمور إلى نصابها الوطني الدستوري.
وتتلخص هذه المحددات في الآتي:
1. الانسحاب الفوري لقوات الدعم السريع من المدن والمناطق المأهولة، وتسليم كل المرافق والمؤسسات العامة للدولة السودانية.
— هذا الشرط يشكّل جوهر رؤية القيادة، لأنه يتعامل مع أصل الأزمة لا أعراضها، أي إنهاء الوجود المسلح داخل البنية المدنية، وحصرية السلاح بيد الدولة.
2. تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة ووقف عمليات إعادة الانتشار.
— فالدولة ترى أن السلاح لا يمكن أن يبقى خارج إطار القيادة العسكرية النظامية، والميديا تمردت، وأن أي هدنة تتجاهل هذه النقطة هي ترسيخ للفوضى واستمرار لعدمية الدمج والتسريح.
3. محاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم التي ارتُكبت في حق المدنيين.
— وهو بند يعكس رؤية الدولة للعدالة بوصفها شرطًا للاستقرار وليس عقبة أمامه، ويرمي إلى حماية المدنيين من استغلال الهدنة للإفلات من العقوبة أو غطاءً لارتكاب مزيد من الانتهاكات.
4. ضبط العمل الإنساني وتحييده عن النفوذ الميليشياوي، بوضع آلية وطنية – بإشراف الحكومة – لتنسيق دخول المساعدات الإنسانية وممراتها وتوزيعها.
— فالجيش يرى أن بعض قنوات الإغاثة جرى توظيفها سياسيًا وميدانيًا، وأن أي هدنة إنسانية بلا رقابة رسمية ستتحول إلى مصدر دعم غير مباشر للميليشيا.وان الدولة قبلت بفتح المعابر لغاية إنسانية، استخدمها التمرد للتشوين والإمداد والسلاح والنهب ودخول المرتزقة واعادة تموضعه .
ثانياً: الرباعية بين الغموض وفقدان الشرعية
القيادة السودانية لم تعترض على مبدأ الحوار أو الوساطة مع أي طرف إقليمي او دولي ، لكنها سجّلت تحفّظًا مبدئيًا على غياب الرسمية والمرجعية القانونية في آلية الرباعية التي تشمل الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، بوجود الإمارات كراعي للتمرد.
فمن وجهة نظر الدولة، ليست الرباعية جهة تخويل دولي أو إقليمي مخوّلة بإدارة ملف سيادي معقّد كالحرب في السودان. بل إن تكوينها وطرق تواصلها الميداني مع الأطراف جرى خارج القنوات الدبلوماسية المعتمدة، ما جعلها أقرب إلى تجمع سياسي غير رسمي من كونها آلية وساطة محايدة، فهي معيبة في التكوين ، في الأهداف والمخرجات وتجنح للوصاية والضغط على الدولة ومساواتها بالتمرد.
إضافة إلى ذلك، تُدرك القيادة السودانية أن بعض أطراف الرباعية منخرطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في دعم الميليشيا أو في تغطية أنشطتها عبر واجهات إنسانية وإعلامية. ومن ثمّ، فإن أي هدنة برعاية هذه المجموعة قد تُقرأ داخليًا كاعتراف ضمني بشرعية الميليشيا، وهو ما يتعارض مع الدستور والقانون الوطني والمزاج الشعبي الجمعي .
ثالثاً: اصطدام المحددات الأربعة بواقع «الوساطة الهشة»
تُظهر التجارب السابقة على خلفية إعلان جدة أن الهدن المعلنة منذ اندلاع الحرب لم تصمد طويلاً، لأن الوسطاء ركّزوا على تثبيت وقف النار شكليًا دون معالجة جذور الصراع. بينما ركّزت القيادة السودانية على أن أي هدنة يجب أن تُمهّد لعودة الدولة لا لتقاسمها.
وعندما تطرح الرباعية هدنة جديدة تغضّ الطرف عن مسألة الاحتلال الفاشر وعدم الانسحاب وتسليم السلاح، فهي عمليًا تلغي المحددات الأربعة وتفتح الباب لتثبيت الأمر الواقع، الأمر الذي تعتبره الخرطوم خطًا أحمر يمسّ السيادة الوطنية وهيبة الدولة.
كما أن غياب آلية تنفيذ ميدانية محايدة يجعل من الهدنة اتفاقًا هشًّا غير قابل للتطبيق. فالرباعية ليست طرفًا عسكريًا أو أمميًا يملك مراقبين أو قوات حفظ سلام، وبالتالي فإن تنفيذ شروط الانسحاب أو المحاسبة يصبح مستحيلاً دون موافقة الميليشيا نفسها.
رابعاً: القراءة السياسية لموقف القيادة السودانية
من زاوية تحليلية، يمكن القول إن القيادة السودانية لا ترفض مبدأ الهدنة لذاته، لكنها ترفض الشكل الذي يُراد فرضه؛ هدنة بلا ضمانات ولا مرجعية سيادية هي مكافأة للتمرد.
فمن منظور الأمن القومي، أي وقف لإطلاق النار لا يسبقه نزع للسلاح من الميليشيا هو تهديد للدولة، وليس فرصة سلام. ولهذا فإن القيادة، وهي تُعلن التزامها بالمبادرات الإقليمية والأفريقية الرسمية، ترفض أي مقاربة جزئية أو مسار «موازي» خارج مظلة الاتحاد الأفريقي أو الإيغاد أو الأمم المتحدة.
إن المحددات الأربعة إذن ليست شروطًا تعجيزية، بل حدودًا فاصلة بين الدولة والفوضى. فهي تضع قاعدة مبدئية: لا تسوية سياسية قبل استعادة السيطرة الوطنية على الأرض، واستعادة كل شبر من تحت التمرد، ولا حوار مع طرف يحتكم إلى السلاح داخل المدن و لي يد الدولة.
خامساً: أثر الموقف على مشهد الهدنة والرباعية
إصرار القيادة السودانية على هذه المحددات جعل مقترح الهدنة في صورته الراهنة غير قابل للحياة. فالمسافة بين ما تطلبه الدولة وما تستطيع الرباعية تحقيقه باتت واسعة، خصوصًا بعد أن فقدت الرباعية ثقة الشارع السوداني الذي يرى فيها امتدادًا لتجارب التدويل السابقة، ومحاولة لفرض وصاية ناعمة على القرار الوطني. وتماهي واضح لصالح التمرد ، وهي قصفه للمدنيين وتدميره الممتلكات العامة ، بينما يطلب من الدولة وجيشها النظامي عدم ممارسة سلطانها بموجب الدستور.
وبالمقابل، يُدرك المراقبون أن نجاح أي هدنة مستقبلية يمرّ عبر مسار رسمي متفق عليه، يعيد الاعتبار للآليات الإقليمية المشروعة ويضع جميع الأطراف أمام التزامات محددة المدى والزمن والرقابة.
سادساً: نحو هدنة ذات معنى
الدرس المستفاد من تجارب العامين الماضيين أن الهدن الهشّة لا تصنع سلامًا، بل تفتح ثغرات جديدة. لذلك فإن رؤية القيادة السودانية – إذا أُخذت في سياقها الكامل – تمثّل محاولة لصياغة هدنة مسؤولة تتقدّم على قاعدة دولة القانون والسيادة، وعدم اعتراف الدولة بمبدأ (الطرفانية) وسرديتها الالتفافية المقيتة.
إن تلاقي المحددات الأربعة مع مبدأ الشرعية الرسمية يجعل من أي هدنة ممكنة مشروعًا وطنيًا حقيقيًا، لا صفقة ميدانية مؤقتة. فالسودان لا يحتاج إلى وسطاء جدد بقدر ما يحتاج إلى ارادة منصفة وضمانات صادقة تُعيد إليه وحدته، وتُنهي ظاهرة تعدد السلاح والمراكز، او تكون ساحته الداخلية مسرحاً لمصالح الدول .
خاتمة
يمكن القول إن المحددات الأربعة ليست مجرد شروط عسكرية، بل إعلان مبدأ وطني: أن الهدنة الحقيقية لا تُمنح لمليشيا بل تُبنى للدولة.
وبقدر ما تتمسك القيادة السودانية بهذه الرؤية، فإنها تُعيد ضبط العلاقة بين الداخل والخارج على قاعدة الاحترام المتبادل، وترفض أن تُختزل سيادة السودان في مداولات غير رسمية أو وساطات ملتبسة وأجندات ذات حمولات ثقيلة.
إن فشل الهدنة في ظل غياب الرسمية عن الرباعية لم يكن مفاجئًا، بل نتيجة طبيعية لمعادلة مختلة؛ فحين تكون الهدنة خارج مظلة الشرعية، تنهار أمام أول اختبار، والسودان منحها ٨ فرص كانت وبالاً على شعبنا.
——————
١٣ نوفمبر ٢٠٢٥م



