
عندما تتوقف البنادق وتخبو نيران المعارك، تبدأ المعركة الأهم: معركة الإعمار.
لكن أي بناءٍ بلا ضوابط مالية شفافة، قد يبدو شامخًا في البداية، لكنه لا يلبث أن ينهار تحت وطأة الفساد والفوضى.
في لحظات ما بعد الحرب، تتدافع المساعدات وتُعاد صياغة الخطط، لكن لا شيء يستقيم ما لم تُدار الموارد بعقلٍ محاسبي دقيق.
فالمحاسبة ليست مجرد أدوات لتسجيل النفقات، بل هي النظام العصبي لأي اقتصاد يحاول النهوض من تحت الركام.
الدور المحوري الذي تلعبه المحاسبة بعد الحروب يكمن في:
ضبط تدفقات الأموال، خاصة تلك القادمة من جهات مانحة، والتي إن لم تُحَصّن بمنظومة محاسبية شفافة، تصبح مرتعًا للعبث.
حصر وتقييم الأصول المتضررة، وهو ما يحدد الأولويات بدقة في مشاريع الإعمار.
استعادة ثقة المستثمرين والمانحين، الذين لا يغريهم فقط وجود الموارد، بل طريقة إدارتها.
تمكين العدالة المالية، عبر آليات تعويض دقيقة تضمن عدم التمييز أو التلاعب.
وقد أثبتت التجارب أن غياب الرقابة المحاسبية بعد الحروب، أدى إلى ضياع مليارات الدولارات، وساهم في إنتاج أزمات جديدة داخل مجتمعات خارجة لتوها من الحرب. في المقابل، فإن الدول التي وضعت نظامًا محاسبيًا صارمًا، كانت أكثر قدرة على البناء، وجذب رؤوس الأموال، وتهدئة الاحتقان الاجتماعي.
إن إعادة الإعمار لا تبدأ من الجرافات ولا من الخرائط، بل من سجلات المحاسبة، حيث تتجلى الإرادة في تنظيم المال العام، وحيث يُقاس الفرق بين الفوضى والنظام.
ختامًا، المحاسب بعد الحرب لا يُعدّ موظفًا إداريًا عاديًا، بل هو أحد حُماة الدولة الوليدة، ومهندس الثقة المفقودة، والضامن الحقيقي لعدالة ما بعد الركام.