
حين نتأمل مسار الأمم والشعوب، ونتفكر في أسباب تقدمها أو تراجعها، ندرك يقيناً أن النصر الحقيقي لا يُستجدى بالمصادفة، ولا يُقتنص بالعاطفة وحدها، ولا يُبنى على مجرد لحظة إشراق عابرة، بل هو ثمرة حقيقية تُجنى بعد سنوات من العمل الجاد، والتخطيط السليم، والممارسة العلمية الرصينة. فالنصر في ساحات الحياة كما في ميادين الرياضة، لا يهبط من سماء الأمنيات، وإنما يرتفع من أرض الجهد والمعرفة.
وقد تجلت لي هذه الحقيقة بأوضح صورها وأنا أتابع مباراة منتخبنا الوطني أمام المنتخب السنغالي في تصفيات كأس العالم. كنت أجلس مشدوهاً، تتوزع نفسي بين الحلم والواقع، بين العاطفة والعقل. كنت أشجع منتخبنا بقوة، أرفع الأكف بالدعاء وأمني النفس بأن يتحقق الانتصار الكبير، وأن يتأهل فريقنا إلى النهائيات ليكتب اسمه في سجل الخلود. كانت المشاعر تتدفق، والآمال تكبر مع كل لمسة للكرة، ومع كل محاولة للتقدم. غير أن لحظة التأمل العميق أوقفتني على حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن السنغال لم تصل إلى ما وصلت إليه بمحض الصدفة أو بدعاء الجماهير وحده، بل لأنها اختارت منذ زمن بعيد أن تبني طريقها على أسس راسخة من التخطيط والعلمية.
لقد تذكرت حينها أن السنغال قد وضعت نصب عينيها هدفاً واضحاً: صناعة لاعبين قادرين على المنافسة في أرفع المستويات. فأنشأت الأكاديميات الرياضية التي تحتضن المواهب منذ نعومة أظافرها، وتوفر لهم التدريب العلمي المبكر، وتغرس فيهم روح الانضباط والمسؤولية. ثم تفتح أمامهم أبواب الاحتراف في الدوريات الأوروبية، حيث يتشرب اللاعب أحدث أساليب التدريب، ويتعود على الانضباط المهني، ويتعامل مع أفضل المدربين والخبراء. وهكذا لا يعود اللاعب ابن الصدفة، بل يصبح ابن خطة طويلة المدى، وثمرة لجهد تراكمي منظم.
ومن هنا يتجلى الدرس البليغ: أن الفرق بيننا وبينهم لم يكن مجرد فارق في نتيجة مباراة، بل هو فارق بين من اتخذ العلم والتخطيط طريقاً، وبين من لا يزال يراهن على الإشراقات المفاجئة والومضات العاطفية. لقد علمتني تلك اللحظة أن الإشراقات مهما أضاءت لنا الطريق، فإنها تظل عابرة وزائلة، وأنها قد تمنحنا أملاً وقتياً، لكنها لا تصنع مسيرة ولا تؤسس لمستقبل. فالنصر الذي نرجوه لا بد له من جذور عميقة في أرض العمل، ولا بد له من سواعد تسنده، وعقول توجهه، ومؤسسات ترعاه.
إننا إذا أردنا أن نلحق بركب الأمم، وأن نصنع لمنتخبنا وأبنائنا وأجيالنا القادمة نصراً دائماً لا مؤقتاً، فعلينا أن نتعلم من الآخرين، وأن نحذو حذو من سبقونا في درب التخطيط. فالعاطفة وحدها لا تكفي، وحب الوطن وحده لا يصنع مجداً، بل لا بد أن يقترن الحب بالعمل، والعاطفة بالعلم، والرغبة بالخطة الواضحة. عندها فقط يمكن أن يتحول الحلم إلى واقع، وأن تغدو أشواقنا حقيقة ملموسة، وأن نصبح نحن أيضاً جديرين بالوقوف في مصاف الكبار.
إن التخطيط السليم ليس رفاهية يمكن تأجيلها، بل هو شرط أساسي للنهوض، وركيزة من ركائز أي انتصار. ومن يظن أن النصر يمكن أن يأتي هبة بلا إعداد، فهو كمن ينتظر أن يحصد زرعاً لم يزرعه، أو أن يجني ثمراً لم يغرس له بذرة. لقد آن لنا أن نؤمن بأن بناء المستقبل لا يكون إلا بالعقل، وأن صناعة الأبطال لا تتم إلا عبر مؤسسات، وأن إشراقات الأفراد مهما أبهرت لا يمكن أن تحل محل مشروع وطني متكامل.
وهكذا تبقى الرسالة واضحة جلية: العلمية والتخطيط هما السبيل الوحيد للنصر المستدام، وهما الطريق الذي يضمن لنا أن نحلم ونحقق، أن نرغب ونجني، أن نسعى ونصل. وما لم نسر في هذا الطريق، فستظل انتصاراتنا رهينة الصدفة، وأحلامنا معلقة في فضاء الانتظار، بينما تمضي الأمم من حولنا بخطى ثابتة نحو مجدها.