سينجح الاتفاق الاطاري في أحداث انفراج في العلاقات الخارجية للسودان، لكن دوام الانفراج والاستفادة منه هذا أمر يتعلق بأداء الدولة السودانية مجتمعة، أولا، مع استمرار الحوار والتقارب في الداخل، ثانيا.
حتى في حالة عدم اتفاق كامل على رئيس وزراء، فإن تعيين رئيس وزراء لتصريف الاعباء المزدحمة (وليس لشغل الموقع) اذا كان شخصية يقل الخلاف حولها – وببعض التفاهمات الخارجية – فانه سيمر بسلام.
سيحدث الانفراج ليس بسبب نص الاتفاق ولا الأطراف الموقعة عليه، بل لأن الحكومة حاليا -وحتى تاريخ هذا المقال- مؤهلة لتسويقه خارجيا.
من الحلول، يمكن التوصل الى توافق على استمرار الحوار مع شاغلي المواقع من الحركات المسلحة بشرط ايقاف اي حرب كلامية أو تصعيد ضد الاتفاق.
نقطتي التي أؤكد عليها أن الاتفاق فتح لنا أبواب عالمية أوسع وقيل لنا تفضلوا، لكن الدخول بمشية ثابتة غير مترنحة والاستفادة من هذا الوضع ليس مسئولية الرباعية و لاالثلاثية ولا أمريكا ولا التطبيع ولا أي شيء.
أداء الدولة السودانية (في ذاتها) هو الفيصل واضرب على ذلك مثالا واضحا للغاية.
اتفاق البرهان – حمدوك كان جيدا ولقي ترحيبا من الأمم المتحدة بعد ست دقائق فقط، والترويكا بعد اقل من ساعة والاتحاد الافريقي كذلك (ولم نستفد منه داخل الاتحاد الافريقي).
باختصار خلال يوم التوقيع كان العالم كله، اتحاد اوربي، وترويكا وغيرهم رحبوا باتفاق البرهان – حمدوك، وقال أنطونيو غوتيرش الأمين العام للامم المتحدة – بالحرف الواحد – “على الشعب السوداني والقوى السياسية تأييد هذا الاتفاق”.
نقطتي هي: ما يسمى حاليا إنهاء انقلاب اكتوبر تم مع اتفاق نوفمبر، ولم يستفد السودان منه.
حتى بالقانون هنالك سطر واحد في اتفاق نوفمبر يحصن البرهان من المسائلة القانونية ويبرر لقراراته باقرار رئيس الوزراء لها. (ونتيجة لفشل كل المُبادرات في احتواء الأزمة السياسية، ترتب على ذلك اتخاذ إجراءات وقرارات بواسطة القائد العام للقوات المسلحة بتاريخ الخامس والعشرين من أكتوبر 2021)
هذا النص وتوقيع رئيس الوزراء الشرعي حينها جعل القرارات نتيجة للفشل السياسي، ومعلوم أن الجريمة الموجهة ضد الدولة يجوز اسقاط الاتهام ابتداءا بواسطة من يمثل الدولة.
الخلاصة أن قرارات 25 اكتوبر ازيل عنها الوصف الانقلابي دوليا وقانونيا.
ومع هذا لم ينفع الأمر! لماذا؟
السبب ليس رفض الشارع، فالاطراف الدولية تجاوزت عن تظاهرات رفض القرارات مقابل الاتفاقية، بل في توقيت ما (لو تذكرون) اشادت أمريكا بوضوح بانضباط قوات الامن السودانية، ليس حبا فيها ولا (شيك على بياض) ولكن لمنح اتفاق البرهان – حمدوك فرصة لتسويقه عبر الحكومة، إذ لم تكن أمريكا ترغب في هزيمة الاتفاق.
السبب الجوهري في احباط استفادة السودان من الاتفاق كان هو تمرد الخارجية السودانية، فقد اجتهد الوكيل المكلف حينها السفير علي الصادق، ولكن الكل يعلم ان الخارجية ليست مكتب الوزير ومكتب الوكيل في الطابق السادس والسابع في عمارة في شارع النيل.
ماذا يفعل الوكيل مع 12 سفارة متمردة علنا، وآخرين متربصين ينتظرون الفائز ويغازلون الطرفين ويرفضون التسويق للاتفاق؟
دبلوماسيون بالخارج مضربين عن العمل، أو يعملون ضد حكومتهم، كان وضعا رديئا ومهيئا لاسقاط الاتفاق تماما.
كيف ينور الوكيل حينها السفراء الاجانب بالقرارات أو حتى بالاتفاق بينما ممثلي السودان في واشنطون والعواصم الأوربية والعربية فتحوا مقار السفارات للناشطين والسياسيين رافضي القرارات والمشككين في الاتفاق.
قائمة طويلة من السفراء وقعوا على تجريم البرهان.
لم يكن الفريق عبد الفتاح البرهان يتوقع هذا، ولم تكن هنالك ديبلوماسية رئاسية ولا سيادية مؤهله لاتخاذ خطوات احترازية قبل قرارات 25 اكتوبر أو بعدها، أيضا لم يتصد حمدوك لتمرد الخارجية ولا حتى بمناقشات هاتفية مع السفراء ولا اجتماع موسع ولا اي شيء.
حمدوك انشغل بترضية عناصر من قحت لتهدئة الشارع وتحسين صورة الاتفاق.
كان الجرح في الرجل اليمني ولكنه انشغل بدهن اليسرى.
جهاز الأمن والمخابرات أصلا تراجع دوره الخارجي منذ زمن والغيت العديد من ملحقياته في السفارات.
وما خفي عن (الملحقيات الاخرى) أكثر مما هو معروف.
المهم، فشل اتفاق البرهان – حمدوك لعدم قدرة الدولة على حمايته وتوظيفه دوليا.
لا يوجد سبب مقنع اطلاقا أن يرحب الاتحاد الافريقي بالاتفاق ثم يفشل مندوب السودان لدى الاتحاد الافريقي في البناء على هذا الموقف لاسترداد عضوية السودان.
لا يوجد لغز في الأمر، سوى تمرد الخارجية، ما ظهر منه وما بطن.
كنت اظن انني أول من أستخدم مطلح تمرد الخارجية ولكن اتضح ان خبرا في صحيفة النهار اللبنانية حمل خط “التمرد الديبلوماسي” في السودان بعد يوم واحد من بيان السفراء المتمردين.
الآن، الوضع مختلف جدا، بعودة الامور الى طبيعتها في الخارجية السودانية، (للاسف مع وجود حملة الجنسيات الأجنبية أو الراغبين في اللجوء يوما ما من الديبلوماسيين)
لكن في العموم، لحسن الحظ، السفراء المحترمين الموجودين أصلا والذين عادوا بقرارات المحكمة هم أصلا لم يكن هنالك مطعن في مهنيتهم وعقلانيتهم، وقد سوقوا للحكومة السودانية سابقا أي شيء، سلام حرب وحدة انفصال، اي شيء، وعملوا مع كل الوزراء حتى دينق ألور الذي تحدث عن تسليم البشير للجنائية.
إذن السودان موعود بالخير الان في علاقاته الخارجية بعد الاتفاق الاطاري، ولكن لماذا قلت أيضا أن التراجع وارد؟!
نعم، وارد، لأن الأطراف الرافضة للاتفاق اذا قامت بالتصعيد وارتبك الوضع من جديد، لا سيما في دارفور أو الشرق فإن الأطراف الدولية الراعية للاتفاق “حا تنكر الاتفاق حطب”!
حطب، كلمة يضيفها السودانيون للتأكيد على الانكار الجاف القاسي.
ناشطو دارفور في الدول الغربية لديهم قوة وسطوة وشبكات للضغط على القرار، ويستحسن الإنتباه لهذا الأمر، والاتفاق مع الحركات والحوار مع كل مناهضي الاتفاق، دون أي استثناء، نعم دون استثناء، حتى الجزولي ود. ناجي مصطفى، بل حتى مختار بدري.
بل حتى حسن اسماعيل، اذا كان ابراهيم الميرغني وزيرا للاتصالات في عهد البشير ووقع على الاتفاق، وحسن اسماعيل كان وزيرا في ذات الوزارة بعده.
هذا اتحادي وهذا أمة.
اذا كان الحوار مفتوحا للاجانب ومزدوجي الولاء والجنسيات كيف يحظر على سودانيين؟!
لا تنشغلوا بالفرحة العامة، ولا وعود سفراء محدودي الصلاحيات، بعضهم ينتظر يوم تحوله من السودان للمغرب أو ماليزيا بفارغ الصبر، والكثير من الوساطات.
لا تعولوا على صفقات سريعة وخاطفة مع نتنياهو، أو غيره، لأن أداة تنفيذ السياسة الخارجية هي الدولة مجتمعة وليس الفرد.
أداء الدولة السودانية هو ما يحدد الاستمرار في نجاح الاتفاق من عدمه.
راجعوا عمودي بعنوان “أم دلدوم إقتصادية” عن الاطاحة بجبريل وتهديد السياسات المالية.
هنالك أيضا، الحديث عن الجيش والاصلاحات العميقة فيه، وبروز هواجس باستهدافه.
اي توتر قد يسابق الحراك الدولي المؤيد للاتفاق الاطاري، وعندها تعود الأطراف الخارجية للاسطوانة المعروفة، استهداف المتظاهرين السلميين يجهض الاتفاق، وتبدأ المزايدات الداخلية والابتزاز للعسكريين، ثم القفز من السفينة لمعسكر الناشطين والكتابة ضد السودان في المراكز والصحف الأجنبية.
وكأنك يا أبو زيد ما رحت ولا غزيت.