البرمجيات … المحرك الخفي

عندما نضغط زرا في الحاسوب، أو نفتح تطبيقا، أو نبحث عن معلومة على الإنترنت، فإن الجهاز لا “يفهم” ما نريده كما نفهم نحن. ما يحدث في الحقيقة أن هناك محرك خفي يعمل في الخلفية، يخبر الجهاز خطوة بخطوة ماذا يفعل. هذا المحرك عبارة عن لغة تخاطب تسمى بالبرمجيات. البرمجيات ببساطة هي تعليمات مكتوبة بلغة خاصة، تجعل الأجهزة تعمل. من دونها، يبقى الهاتف أو الحاسوب مجرد قطعة من المعدن والبلاستيك، لا تجري اتصالا، ولا تعالج او تحفظ معلومة، ولا تعرض رسالة، بل هي العقل الذي يمنح الجهاز الحياة، والوسيط الذي ينقل أفكار الإنسان إلى عالم الآلة.
بدأت فكرة البرمجيات الأولى عندما حاول الإنسان تعليم الآلة كيف تكرر عملا معينا دون تدخل مستمر ، ويعود اصل هذه الفكرة إلى نول “جاكارد” في القرن التاسع عشر ، حيث استخدمت بطاقات مثقوبة للتحكم في إنماط النسيج ، لم يكن هناك حاسوب ، بل إعطاء الآلة تعليمات مسبقة لتنفيذها بدقة، وهكذا ظهرت البرمجيات عندما احتاج الإنسان إلى تسريع الحسابات وتنظيم المعلومات.
في بداياتها كانت محدودة، تستخدم لأداء مهام بسيطة ومتكررة، لم تكن تختار، بل تنفذ ما يطلب منها بدقة، ومع توسع الحياة وتعقدها، تطورت هذه التعليمات، وأصبحت أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع مواقف متعددة، واضحت أساس تشغيل كل جهاز.
فالجهاز مهما كان متطورا، بلا برمجيات لا قيمة له، فالقيمة الحقيقية لم تعد في شكل الجهاز، بل في ما يستطيع فعله، وهذا ما تحدده البرمجيات.
اليوم، نعيش في عالم تعمل فيه البرمجيات بصمت، هي التي تنظم حركة المرور، وتدير البنوك، وتساعد الأطباء، وتتحكم في أنظمة الطيران، وبها كتبت أدوات الذكاء الاصطناعي وتختار لنا ما نراه على شاشاتنا.
نحن لا نراها، لكننا نشعر بتأثيرها في كل تفاصيل حياتنا اليومية. ومع هذا الانتشار، لم تعد البرمجيات تتعامل مع اللحظة فقط، فهي تحتفظ بمعلومات عن الماضي، وتتابع ما يحدث الآن، وتقدم اقتراحات لما قد يحدث لاحقا. وبهذا أصبحت الرقمنة لا تكتفي بتسجيل الواقع، بل تشارك في توجيهه.
في كثير من الأمور، لم يعد الإنسان يحدد كل خطوة بنفسه، بل صار يضع الهدف العام، بينما تتولى البرمجيات ترتيب التفاصيل وتنفيذها بسرعة ودقة مما وفر الوقت والجهد، لكنه طرح في المقابل أسئلة جديدة حول حدود الاعتماد عليها.
إن الرقمنة عبر الزمن ليست مجرد تطور في الأجهزة، بل تغير في طريقة عيشنا وفهمنا للعالم. ومع اتساع دور البرمجيات، يصبح التحدي الحقيقي هو أن نستخدمها لخدمة الإنسان، لا أن نتركها تقرر عنه دون وعي.
العمود القادم من آفاق رقمية نقف على عالم الإنترنت وإنهيار المسافات.
17 ديسمبر 2025م.



