الرواية الأولى

نروي لتعرف

آفاق رقمية / د. محمد عبدالرحيم يسن

الرقمنة… عبر الأزمنة (٩)

الرقمنة… إلى أين نمضي؟

د. محمد عبدالرحيم يسن





بعد أن عبرنا في هذه السلسلة محطات البيانات، ودورها المتنامي، ثم الخوارزميات التي باتت تشارك الإنسان في الاختيار واتخاذ القرار، والذكاء الاصطناعي الذي بات يفكر كما الانسان ،يصبح السؤال، إلى أين تقودنا كل هذه التحولات؟ وما شكل العالم الذي يتكون بهدوء أمام أعيننا؟
ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور تقني متسارع، بل تحول حضاري عميق. ففي العقود القادمة، لن تكون الرقمنة إضافة إلى الحياة، بل ستكون جزءا من بنيتها الأساسية. العمل، والتعليم، والصحة، والتجارة، وحتى العلاقات الإنسانية، ستعاد صياغتها على إيقاع العالم الرقمي.
سيتغير مفهوم العمل، وظائف ستختفي، وأخرى ستولد لم تكن في الحسبان. لن يكون التحدي في ندرة الفرص بقدر ما سيكون في القدرة على التكيف. المهارة الثابتة ستفقد قيمتها، بينما يصبح التعلم المستمر شرطا للبقاء في سوق سريع التحول. وفي ميدان المعرفة، لم يعد التحدي هو الوصول إلى المعلومة، بل التمييز بينها. ستغمرنا البيانات، وتتزاحم التحليلات، ويصبح التفكير النقدي مهارة أساسية لا تقل أهمية عن القراءة والكتابة. من لا يمتلك أدوات الفهم، قد يصبح أسيرا لما تقدمه له الشاشات دون تمحيص. أما على مستوى القرار، فستزداد مشاركة الأنظمة الذكية في توجيه السياسات، وإدارة الموارد، وتقييم المخاطر. هذا قد يحمل فرصا هائلة لتحسين الكفاءة وتقليل الهدر، لكنه يفتح في الوقت نفسه أسئلة عميقة حول الشفافية، والمسؤولية، ومن يتحمل تبعات القرار عندما تخطئ الخوارزميات. وفي خضم هذا كله، تبرز الخصوصية بوصفها أحد أكبر تحديات المستقبل. ستصبح الحياة الرقمية أكثر كشفا، وقدرة الأفراد على التحكم في بياناتهم أكثر تعقيدا. لن يكون الخطر في فقدان الخصوصية دفعة واحدة، بل في تآكلها التدريجي، حتى نعتاد ما لم نكن نقبله من قبل. ومع ذلك، فإن هذا المستقبل ليس قدرا مفروضا.
الرقمنة لا تحمل خيرا مطلقا ولا شرا مطلقا. هي أداة، تتشكل نتائجها بحسب وعي المجتمعات ونضجها، وقدرة الإنسان على أن يظل في موقع القيادة لا التبعية. نحن نقف اليوم على عتبة زمن جديد. زمن تتقاطع فيه التقنية مع الأخلاق، والكفاءة مع العدالة، والسرعة مع الحكمة. وما سنراه في العقود القادمة لن تحدده الخوارزميات وحدها، بل خيارات البشر الذين يصممونها، ويستخدمونها، ويخضعونها للقيم التي يؤمنون بها.
في العمود الأخير من آفاق رقمية، ننتقل من التأمل إلى الفعل، لنسأل:
ما الذي يجب أن تستعد له الدول؟
وما الذي ينبغي على الحكومات تنظيمه؟
وأين يقف البشر في هذا التحول؟

٣١ ديسمبر ٢٠٢٥م

اترك رد

error: Content is protected !!