الرواية الأولى

نروي لتعرف

الكتلة الحرجة / ود البلد

الذهب الأفريقى بين الثروة المهدرة والاستغلال الدولي


تظل إفريقيا، بثرواتها المعدنية الهائلة، ساحة مفتوحة لإعادة توزيع النفوذ الاقتصادي العالمي. ويأتي الذهب، كأحد أثمن مواردها، في قلب هذه المعادلة، لكنه يتحول من أداة للتنمية إلى مورد يغذي الفقر والاستغلال. فعلى الرغم من امتلاك القارة بعضًا من أغنى مناجم الذهب في العالم، فإن نصيب شعوبها من هذه الثروة يبقى هامشيًا، بينما تتدفق الأرباح إلى مراكز تجارية ومالية خارج حدودها.

مناجم الذهب: ثروة القارة الممتدة

تمتد أحزمة الذهب الإفريقي من غانا ومالي في غرب القارة إلى جنوب إفريقيا، مرورًا بالسودان والكونغو وموريتانيا. يتجاوز الإنتاج السنوي للقارة ٦٠٠ طن، لكن القسم الأكبر من هذه الكمية لا ينعكس في ميزانيات الدول المنتجة. فالتهريب، والتجارة غير المنظمة، والاستغلال الدولي تُحوّل هذه الثروة إلى عبء اقتصادي.

في السودان، بلغ الإنتاج الرسمي في عام ٢٠٢٤ نحو ٦٤ طنًا، بزيادة ٥٣٪ عن عام ٢٠٢٢، محققًا عائدات بقيمة ١٫٥٧ مليار دولار. وخلال النصف الأول من عام ٢٠٢٥، تجاوز الإنتاج ٣٧ طنًا، مع توقعات مماثلة للنصف الثاني. غير أن تقديرات غير رسمية تشير إلى أن الإنتاج الحقيقي قد يصل إلى ٨٠ طنًا سنويًا، نصفها يُهرَّب عبر الحدود إلى دول الجوار مثل تشاد وجنوب السودان، وغالبًا عبر شبكات مسلحة ووسطاء محليين يستفيدون من الفوضى السياسية.

السودان والصراع على الذهب

هذا التهريب لا يجري بمعزل عن الصراع الذي شهده السودان. فقد كانت مليشيا الدعم السريع تسيطر على مساحات غنية بالذهب في السودان، قبل أن تُشعل الحرب مع القوات المسلحة السودانية في أبريل ٢٠٢٣. وتشير تقارير دولية إلى أن هذه المليشيا استخدمت عائدات الذهب في تمويل عملياتها العسكرية، عبر قنوات تصدير غير رسمية تتقاطع مع مصالح وشبكات خارجية تمتد نحو موانئ العبور الإقليمية، وفي مقدمتها الموانئ والأسواق الواقعة في الإمارات.

توضح تقارير بحثية أن مجموعات روسية، مثل فاجنر، لعبت دورًا في إدارة عمليات التعدين والنقل داخل مناطق النزاع، في تنسيق غير مباشر مع أطراف محلية، لتأمين موارد مالية بديلة لموسكو في مواجهة العقوبات الغربية. هذه الشبكات المعقدة تُظهر كيف أصبح الذهب السوداني جزءًا من اقتصاد موازٍ عابر للحدود، تُسهم فيه أطراف متعددة الأجندات.

دبي: مركز الذهب العالمي

برزت الإمارات العربية المتحدة، ولا سيما دبي، كمركز عالمي لتجارة الذهب الإفريقي. وخلال العقد الأخير، تحولت دبي إلى نقطة عبور رئيسية، حيث يُعاد تكرير الذهب وتصديره إلى أسواق آسيوية مثل الصين والهند وتركيا. هذا الدور، وإن جرى تسويقه كموقع للتجارة العالمية، يستند في جزء منه إلى شبكات غير شفافة تستفيد من ضعف التنظيم والرقابة في الدول الإفريقية.

تشير تقارير دولية إلى أن كميات كبيرة من الذهب القادم من مناطق النزاع في إفريقيا تُدخل عبر موانئ دبي، دون تحقق كافٍ من مصدرها، ما يجعل المدينة أحد أكبر مراكز إعادة التصدير للذهب غير الموثق عالميًا. هذه المنظومة تُكرّس استمرار تدفق الثروة الإفريقية إلى الخارج، وتمنح الوسطاء الدوليين ميزة اقتصادية على حساب الدول المنتجة.

الأبعاد الجيوسياسية: روسيا والصين في القلب

تتقاطع تجارة الذهب مع حسابات جيوسياسية معقدة. فروسيا، التي تواجه عزلة اقتصادية بسبب العقوبات، وجدت في الذهب الإفريقي منفذًا استراتيجيًا لتجاوز القيود المالية الغربية. من خلال وجودها في السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، تستفيد موسكو من الذهب كأداة تمويل غير خاضعة للرقابة المصرفية.

في المقابل، تعتمد الصين نهجًا اقتصاديًا أكثر منهجيّة. فهي تبرم صفقات مباشرة مع حكومات إفريقية لتأمين الذهب والمعادن مقابل استثمارات في البنية التحتية، في إطار ما يُعرف بـ “مبادرة الحزام والطريق”. وتعمل بكين أيضًا على زيادة احتياطيها من الذهب لتعزيز مكانة اليوان كعملة دولية بديلة جزئيًا عن الدولار. هذه الاستراتيجية تُظهر رغبة الصين في إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي عبر بوابة الموارد الإفريقية.

تحذيرات دولية وحلول غائبة

حذرت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخرًا من أن شبكات تجارة الذهب غير المنظمة تُستخدم في غسل الأموال وتمويل النزاعات، داعيةً إلى بناء سلاسل توريد “مسؤولة”. غير أن هذه الدعوات تبقى نظرية ما دامت المصالح التجارية للدول المستفيدة تتفوق على قدرة الدول الإفريقية على ضبط مواردها.

تجربة بوتسوانا في إدارة الألماس تظل نموذجًا يُحتذى، إذ نجحت في توجيه عائدات الموارد نحو التنمية من خلال شراكات شفافة مع القطاع الخاص. إفريقيا بحاجة إلى تكرار مثل هذه النماذج، مع تعزيز التعاون الإقليمي عبر الاتحاد الإفريقي لإنشاء بورصات ذهب محلية تقلل من الاعتماد على مراكز خارجية.

خاتمة

الذهب الإفريقي يمثل فرصة تاريخية لتحقيق التنمية، لكنه يظل أسير شبكات دولية تستنزف ثروات القارة. الوصول إلى نقطة التحول الحقيقية يتطلب إرادة سياسية قوية، وتعاونًا إقليميًا صادقًا، واستثمارًا في القدرات المحلية للتكرير والتصنيع. فإفريقيا ليست مجرد منجم مفتوح للعالم، بل قارة قادرة على تحويل ثرواتها إلى ركيزة سيادة وازدهار، متى امتلكت أدوات السيطرة على مواردها.

اترك رد

error: Content is protected !!