الرواية الأولى

نروي لتعرف

من اعماقي / د. امجد عمر

الدَّيْنُ المَعْنَوِي… فاتورة لا تُقدّر بالمال

د. امجد عمر محمد

لا شيء يثقل روح الإنسان مثل الديون التي لا تُقاس بالمال. في زمنٍ غلبت عليه لغة الأرقام وازدحمت فيه الحياة بالالتزامات المادية، بات الناس ينظرون إلى الدين باعتباره مبلغًا يُكتب في ورقة، أو التزامًا ماليًا يمكن سداده أو التنازل عنه. لكن ثمة دين آخر لا يُدوَّن في دفاتر المحاكم ولا يظهر في كشوفات الحساب، بل يتجاوز ذلك إلى مساحة أعمق وأصدق: مساحة الروح والقلب. إنه ما يطلق عليه الدَّيْن المَعْنَوِي.

هذا الدين يبدأ من كلمةٍ جارحة خرجت بلا وعي، أو نظرة ظلم كسرت خاطرًا، أو موقف قاسٍ عرّى هشاشة إنسان. هذه اللحظات العابرة تترك أثرًا لا يمحوه الزمن، ولا تسدده دفعات مالية، ولا يلغيه اعتذار صوري. فهناك قلوب لا تملك إلا أن ترفع شكواها إلى السماء، وهناك مظلومون ينامون وهم يهمسون بدعوة لا تُرد. هذا الدين، مهما تجاهلناه، لا يسقط، بل يتضخم في دفاتر الغيب.

وكم هزّني ذلك الموقف الذي يتكرر في بعض الجنائز حين يختم الخطيب بالقول: “من كان له على الميت دين معنوي فليسامحه.”
عبارة تختصر كل شيء: أن الإنسان قد يرحل، لكن أثر ظلمه لا يرحل معه. تبقى الدعوات، تبقى الخواطر المكسورة، ويبقى الدين المعنوي معلّقًا لا يقضيه أحد.

في المقابل، هناك وجهٌ آخر للدين المعنوي، وجهٌ مشرقٌ يستحق الوقوف عنده. هو دين الإحسان الذي يستقر في القلب، دين كلمةٍ رفعت معنوياتك في لحظة يأس، أو ابتسامة جبرتك وأنت على وشك الانكسار، أو نصيحة صادقة جاءت في وقتٍ ضائع من حياتك. هؤلاء لم يمنحوك مالًا، لكنهم منحوك حياة. وهؤلاء لهم دين لا يُسدد إلا بالدعاء والاعتراف بالفضل، وبأن نعيد لغيرهم ما صنعوه معنا.

المفارقة أن الدين المادي، مهما كان كبيرًا، يمكن سداده أو إسقاطه أو التنازل عنه. لكن الدين المعنوي… من يسدده؟ من يردّ الاعتبار لقلوب انكسرت؟ من يطفئ نار الدعوة التي خرجت من صدر موجوع؟
هذا الدين لا يقضيه محامٍ، ولا يُطالب به إرث، ولا يسقط بالتقادم. إنه دينٌ بينك وبين الله أولًا، وبينك وبين المظلوم ثانيًا.

لهذا، فإن سؤال الرأي ليس: كم تدين للناس؟
بل: كم من القلوب تدين لك؟ وكم من الوجوه حملت أذى منك؟ وكم من الأرواح تنتظر منك اعتذارًا لم يأتِ؟

الناس تخطئ، نعم. لكن الخطأ لا يُسقط تبعة الأثر. وكلنا نعلم أن الله يغفر، لكن الناس لا تنسى بسهولة، والقلوب لا تُرمم إلا بعفوها. وما بين هذا وذاك، تبقى الحقيقة التي يجب أن نتذكرها: أن الدين المعنوي يُسدد بالاعتزار وجبر الخاطر فلابد ان نحرص علي اداءه قبل الموت.

في زحمة العلاقات، وفي عالم يمتلئ بقلوب متعبة، ليس المطلوب أن نكون أنقياء إلى حد المثالية؛ المطلوب فقط ألا نكون عبئًا على أرواح الآخرين. أن نمشي بين الناس لطفًا، وأن نترك خلفنا أثرًا طيبًا لا دعوة موجوعة.

إنه خيار بسيط:
إما أن نترك دينًا في رقاب الناس…
وإما أن نترك ذكرًا طيبًا في قلوبهم.

وفي النهاية، سيبقى قوله تعالى شاهدًا على هذا المعنى العميق:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾

اترك رد

error: Content is protected !!