الرواية الأولى

نروي لتعرف

▪️أحزان المجتمع المجتمع /

الدكتور الدرديري محمد احمد يؤبّن الناظر عبدالقادر منعم منصور

كلمة الدكتور الدرديري محمد في تأبين الامير عبدالقادر منعم منصور بالقاهرة وبداره بأم درمان

عندما نعى الناعي امير امراء السودان، الناظر ابن الناظر ابن الناظر، عبدالقادر منعم منصور وجدتني اتمثل بأبيات قيلت في نعي قيس بن عاصم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم *
ورحمته ما شاء ان يترحما
فما كان قيس هُلكُه هَلك واحد *
ولكنه بنيان قوم تهدما.

كيف لا، وفقده ليس فقدا لدار حمر وحدها، وانما هو فقد لاهل السودان كافة. فقد عرفوه حكيما حليما، ثابت الجنان، فصيح اللسان، قوي البيان. وقلما تجد في قيادات الادارة الاهلية من يتحدث الفصيحة ولا يلحن فيها مثله. او من يقرض الشعر بالفصحى والعامية فتسير به الركبان ويتداولونه انشادا وغناء، دون ان ينسب اليه. فهو لا يرضى ان تخالط صورة زعيم القبيلة وحكيمها الراسخة عنه في اذهان الناس، أي صورة اخرى. وقد اكرمه زعماء الادارة الاهلية في السودان قاطبة، وفيهم من فيهم، بلقب امير امراء السودان، ذلك اللقب الذي استحقه عن جدارة، والذي شرف به.
ولو اردت ان اطيل في تأبينه وذكر فضائله لفعلت. لكن المقام لا يتسع لذلك واكتفي بلوحتين. وهما اخر عهدي بالفقيد.

الاولى، عند وفاة شقيقه ابراهيم منعم منصور في يوليو ٢٠٢٠. عندما عدت من المقابر الى دار المتوفي فوجئت بالامير موجودا. بعد الفاتحة سألته، متى حضرت من النهود، وهل كان الفقيد ابراهيم مريضا للدرجة التي جعلتك تحضر؟ قال كلا، بل حضرتُ استجابة لدعوة كريمة من الفريق البرهان. وعندما شعرت ان ابراهيم ليس بخير قررت ان ابقى. سألته ولماذا ناداك البرهان. قال لي عندما قابلته بادرني بالقول (في تواضع وعفوية عرف بهما)؛ “انا ناديتك يا شيخ العرب عشان اعرف رأيك في حكمنا دا شنو؟”. فقال له الامير “وتديني الامان”؟ فقال البرهان نعم، فانا ما ناديتك الا لتقول لي الحقيقة. فقال الامير للبرهان انه ظل يسوس أهله اربعة وستين سنة، تطابق عمر السودان المستقل (حينها). منها اثنين وعشرين سنة وكيلا لوالده، واربعين سنة ناظرا. وقال له انه طوال هذه الفترة لم ير حكما أسوأ من هذا الحكم. فقال البرهان مستفهما: “كيف الكلام دا يا شيخ العرب؟” فجدد له الامير القول انت اديتني الامان؟ فقال له البرهان نعم. فقال. هناك ثلاثة اشياء حصلت في عهدكم هذا لم تحدث قط من قبل. اولا، اي حاكم جاء قبلكم منذ الازهري وعبود كان يصلنا في ديارنا في مستهل حكمه، فيكلف خيارنا بتمثيله لدينا. الا انتم، لم تصلونا، ثم وَليتم امرنا سواقط المجتمع. ثانيا، في كل العهود السابقة، كان هناك جيش واحد في البلاد، الا في عهدكم هذا صار فيها جيشان. والجيش الاصغر منهما يتجاسر على الجيش الكبير. ثالثا، كان القانون سائدا ومحترما. ففي اصغر حلة عندنا كان يكفي المظلوم ان يرفع مظلمته لشيخ الحلة او لرجل البوليس فيُنتصف له. الان ما عاد هناك قانون. واذا اراد المواطن حقه فليس له من سبيل الا ان يذهب لقائد الدعم السريع ويعطيه مالا فيرسل بعضا من رجاله يوسعون المدعى عليه ضربا بعصي الخيزران دون بينة وامام زوجته وبناته. فيستخلصون منه حق المدعي واضعافه معه كحق لهم. فسكت البرهان مليا، ثم قال للامير. لماذا لا تذهب لحمدوك وتقول له هذا الكلام! فقال الامير، لن اذهب له لانه لم يناديني. ولن يناديني، او ينادي امثالي. ولنا ان نتأمل كيف ان ما تنبه له الفقيد مبكرا في ذلك الوقت من مؤشرات الخطر وارهاصاته، قد استفحلت وافضت لما نحن فيه اليوم من بلوى.

اللوحة الثانية عندما جاء من الاستشفاء في القاهرة في ٢٠٢٢. وقد نزل بداره الفسيحة المضيافة والمطروقة بالحلفاية. زرته واخي عبدالواحد يوسف الوالي والوزير السابق. ولما كان عبد الواحد قد هاتف من يخبر الامير بقدومنا فقد اعد العدة لاستقبالنا. ورغم انه كان طريح الفراش، الا انه كان متوقد الذهن متابعا لتفاصيل ما يجري في دار حمر. فطلب من ابنه الامير منعم، اجاره الله في فقده، ان يدعو كل شراتي حمر الموجودين بالخرطوم لحضور اللقاء. وما كان ذلك الا لأنه كان هناك نزاعا حدوديا بين المسيرية وحمر تصاعد فوصل حتى اعضاء مجلس السيادة، وصدرت فيه قرارات من قبل لجنة الحدود. طلب الناظر من الشراتي الحاضرين ان يشرحوا تفاصيل ما دار. ففعلوا مستعينا بالخرط والقرارات والخطابات. بعدها قال لي الناظر. الا ترى اننا تردينا لدرك سحيق! الا ترى ان السماحة التي كانت تسع اباءنا واجدادنا والتي جعلتهم يتعايشون كالاشقاء، ويتشاطرون السراء، ويتراحمون في الضراء قد فارقتنا! واكد لي انه ما سعى لتأجيج ذلك النزاع، الذي سالت بسببه دماء وقتل ابرياء، وانه لا يقره ابدا. وان الارض فسيحة تسع القبيلتين ومثليهما معهما. وانه لا بد لكبار القبيلتين من التدخل لاطفاء نار الفتنة. وقد كان للناظر ما اراد. اذ لم تمض الا اياما قليلة حتى زاره بالنهود وفد كبير من اعيان المسيرية ورموزهم برئاسة الناظر المرحوم عبد المنعم موسى الشوين، وتمت تهدئة ذلك التوتر نادر الحدوث بين القبيلتين.

لعمرك ما الرزية فقد مال*
ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حرّ*
يموت بموته خلق كثير.

الا رحم الله فقيدنا الناظر عبد القادر منعم منصور وتغمده بواسع رحمته

وانا لله وانا اليه راجعون.
الدكتور الدرديري محمد احمد

اترك رد

error: Content is protected !!