(1)
فكرة الدين، والإله والخلاص والحياة الأبدية في الآخرة وربط قيم الأرض بقيم السماء عميقة ومحركات للانسان السوداني منذ ابكار التاريخ، وكل فترات التيه والقطيعة الحضارية في السودان كانت وثنية لا دينية، بينما مراحل الانبعاث الحضاري كانت دينية، هكذا تقلبت دورات التاريخ منذ ممالك كوش وكرمة، ومروي. ثم ممالك نوباتيا والمغرة وعلوة حيث كانت تفاعلاتها وثنية ولم تنهض حضاريا الا بعد حملة التنصير المسيحي التي أرسلها جستنيان، ثم انحدرت هذه الممالك إلى درك القطيعة التاريخية بعد التحرر من قيم الدين.
(2)
كذلك فان ممالك سنار والفور وتقلي والمسبعات غرقت في وهدة الوثنيات ولم تنهض ثقافيا وحضاريا الا بعد ان استنارت بالثقافة الإسلامية، ولما دارت عليها دورة التقادم، قام محمد علي باشا بغزوها بدواعي إلحاقها بمركز دولة الخلافة الإسلامية في تركيا، وبعث بعلماء من المذهب المالكي والشافعي والحنفي لإقناع أهل السودان بعدم المقاومة وبذات المنطق الديني نهض الإمام محمد أحمد المهدي لتحرير السودان وإقامة دولة إسلامية اصولية، بل عندما نزعت بريطانيا لاحتلال السودان كان منطقها إنهاء التمرد المهدوي وإعادة السودان إلى حضن دولة الخلافة الإسلامية.
(3)
كانت نهضت الحركة الإسلامية الحديثة في منتصف الأربعينات من القرن الماضي استمرارا لحالة البعث واستجابة للتحدي التاريخي الذي فرضته واردات الأفكار الماركسية والقومية والعلمانية والوطنية، وقد حاول اليسار إقصاءها من الوسط الطلابي الحديث ولكنها تمددت حتى سادت ونزع الفريق عبود إلى اضعافها ولكنها صمدت حتى صنعت ثورة أكتوبر 1964 ولما نزع اليسار إلى استئصال شافتها بالقوة بعد انقلاب مايو 1969 عندما رفع شعار (الثورة يسار يسار ولا مجال لليمين، وان الترابي لن يرى النور ابدا) وبعد النزال بالسنان والافكار تجاوزت الحركة الإسلامية اليسار ، وتمددت في فضاءات المجتمع مما ازعج الأحزاب الطائفية التي أرادتها منكمشة في مؤسسات الحداثة الطلابية ولكن تمددها في قاعدة المجتمع العريض فرض على الأحزاب الطائفية إما بناء أحزاب حديثة تتوالى علاقاتها على أساس الديمقراطية الداخلية وتجديد القيادات أو البقاء على الذهنية التاريخانية وقوامها حزب تقليدي تسيطر عليه طبقة طائفية ارستقراطية مقابل الطاعة العمياء من الاتباع
(4)
ما إن بدأت الحركة الإسلامية في خلخلة الانساق السياسية والاقتصادية والثقافية الموروثة وارادت رد عملية النهضة الحضارية الشاملة خالصة للمجتمع السوداني حتى تلاقت الإرادة الإقليمية والدولية مع إرادة النادي السياسي الوطني القديم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ونزعا إلى إقصاءها من الحياة السياسية بعد مذكرة الجيش في فبراير 1989م والتي أنهت التجربة الديمقراطية الثالثة ووضعت السودان أمام سيناريو الانقلاب، وعندها سبقت إرادة الحركة الإسلامية الجميع وصعدت إلى الحكم في يونيو 1989م،وما ان بدأت في تنزيل مشروع قوامة المجتمع في الحكم والثقافة والنهضة حتى ارتدت المجموعة الاليغارشية وارادتها سلطة مركزية مطلقة مما أدى إلى انسحاب تيارات الفكر والولاء العقدي وارتد مشروع الإنقاذ العظيم إلى ذات ذهنية النادي السياسي القديم حتى سقط على النحو الذي تعلمون في أبريل 2019م.
(5)
لكن تبقى من ثمرات تجربة حركة الإسلام في الحكم التأكيد على إنها محض إنسانية ونسبية في تحققها وأنها في حالة تجديد وانبعاث مستمر، ويستحيل استئصال قاعدة التيار الاسلامي، وان المجتمع السوداني يرد إخفاق التجربة إلى سلوك البشر وليس لغايات اصولية مستكنة في قيم الدين وكذلك من ثمرات التجربة حسم معادلة الحكم في السودان لصالح مدرسة اليمين الفكري العريض وانتقال التدافع من حالة التناقض الفكري إلى حالة التنوع والثراء السياسي داخل تيارات مدرسة اليمين وكذلك بالمقابل استحالة إقصاء اي تيار فكري أو ايديولوجيا بالقوة، ومن عبر التجربة التأكيد على الدور الطليعي للتيار الإسلامي في قضايا البناء الوطني والديمقراطي والوحدة الوطنية.
وصفوة ثمرات تجربة الاسلاميين ترسيخ رؤية أن المجتمع السودان هو أصل القوامة في الحكم والسياسة والثقافة والاقتصاد والنهضة. ولابد للأحزاب السياسية القديمة أن تتجدد قبل أن تتلاشى وتتبدد.