إنقاذ الضحايا وتحرير الإرادة أم مكافأة المجرمين؟ الخرطوم تقول كلمتها!؟

فيما تمضي المعاناة في المحور الغربي بالبلاد وتزاداد محنة المدنيينعلى خلفية غزو دارفور بالمسيرات. أعلن الجيش عن تطورٍ مفصلي يؤشر إلى تحوّلٍ نوعي في الموقف الرسمي السوداني من المبادرة الأميركية لوقف إطلاق النار، حيث أكد مجلس الأمن والدفاع بالسودان في اجتماعه اليوم شكره لممثل الإدارة الأميركية على مساعيه، لكنه ربط الموافقة على الهدنة بشروط جوهرية تمس صميم السيادة والأمن الوطني، أهمها:
• خروج المليشيا من المدن التي احتلتها.
• جمع سلاحها وتجميعها في معسكرات محددة تحت رقابة الدولة.
• استمرار التعبئة العامة حتى استكمال بسط الأمن وإنهاء التمرد المسلح.
بهذا الموقف، أعاد المجلس صياغة المشهد من جديد، واضعًا حدًا للشائعات والتشويش ورغبة اعلم راعي التمرد لمحاولات فرض الأمر الواقع عبر هدنة شكلية تمنح المليشيا متنفسًا سياسيًا أو زخمًا ميدانيًا. وجاء القرار ليضع حدًا لأي لبس في الموقف السوداني من المبادرات الخارجية، وعلى رأسها عرض الرباعية ومبادرة بولس، اللتين اعتبرهما كثيرون محاولة لتجميل واقع الغزو الممنهج وإعادة إنتاج الغزاة بكل مسمياتهم بغطاء دبلوماسي وإنساني زائف.
- الموقف السوداني.. وضوح لا لبس فيه
يعكس البيان روحًا وطنية حاسمة، تنسجم مع المزاج الشعبي العام الرافض لأي تسوية تُكافئ التمرد أو تتجاهل دماء الضحايا. فالمجلس لم يرفض المبادرة جملةً، لكنه أعاد تعريفها من زاوية “هدنة بشروط الدولة لا بشروط المتمردين”، واضعًا خطًا أحمر واضحًا أمام أي ضغوط خارجية او إملاءات او وصاية أو مساومات إنسانية ظاهرها الرحمة وباطنها التفكيك والتمزيق والتدمير .
إن الاشتراط على تجميع السلاح والمقاتلين في معسكرات محددة يعني عمليًا رفض منطق “الندية” او الطرفانية أو تقاسم النفوذ، وإصرار القيادة على أن تكون الهدنة مقدمة لنزع فتيل الحرب عبر إنهاء حالة التمرد لا ترسيخها. - توازن بين السياسة والميدان
بيان المجلس جاء متناغمًا مع استمرار التعبئة العامة التي أعلنها الجيش مؤخرًا، وهو ما يبعث برسالة مزدوجة:
• من جهة، انفتاح تكتيكي على الحوار الاقليمي و الدولي متى ما انسجم مع الإرادة الداخلية.
• ومن جهة أخرى، تمسّك استراتيجي بخيار النصر الميداني وعدم تقديم تنازلات مجانية على ركام الفاشر ودماء الضحايا .
فلا معنى – من وجهة نظر القيادة – لوقف إطلاق النار ما دامت المليشيا تحتل المدن وتفتك بالمدنيين بالمسيرات والمدافع . والهدنة التي لا تُعيد هيبة الدولة هي مجرد “هدية” للتمرد وفرصة لإعادة التمركز والتموضع لن يقدم عليها جيش مهني ومحترف لقرن من الزمان. - الموقفان القطري والتركي: سندٌ سياسي ومعنوي
في المقابل، جاءت كلمات أمير دولة قطر والرئيس التركي لتشكل دعمًا دبلوماسيًا ومعنويًا واضحًا للخرطوم، إذ أكدا أن السودان لا يقف وحده، وأن إرادة شعبه وجيشه قادرة على دحر التمرد وبناء الأمن من جديد.
هذا الموقف يفتح نافذة جديدة في المشهد الإقليمي: محور عربي–إسلامي متفهم لموقف السودان، في مواجهة تردد غربي وازدواجية معايير أممية وانصراف عن القيم الأخلاقية والإنسانية. فحينما يتحدث زعيما قطر وتركيا بهذه اللغة، فإنهما يوجهان رسالة للعالم بأن السودان ليس ساحةً سائبة، بل دولة ذات سيادة وشعبٍ يرفض الوصاية. - ضغط شعبي وحقوقي يعيد الكارثة إلى واجهة الضمير العالمي
في موازاة الحراك السياسي والميداني، تتعاظم موجة الضغط الشعبي والحقوقي داخل السودان وخارجه، حيث يعبّر السودانيون في الداخل ومكونات الجاليات بالخارج واحرار العالم عن رفضهم لتغييب مأساة دارفور والفاشر وكردفان، وللتعامل الدولي البارد مع واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العقد الأخير، وثالث اكبر ازمة كونية لا تجد حظها من العدالة والإنصاف والتعاطي الشفيف.
لقد كشف تنامي الوعي الجمعي وسط السودانيين عن تحوّل نوعي في الخطاب الوطني؛ إذ لم تعد القضية مجرد حرب داخلية، بل قضية أخلاقية وحقوقية وإنسانية تعري ازدواجية المجتمع الدولي وصمته أمام جرائم موثقة من قتل وتشريد وانتهاكات ممنهجة.
التحركات الحقوقية السودانية والمنظمات المتضامنة بدأت تحاصر الضمير الدولي الغائب، وتدفع باتجاه استيقاظٍ متأخرٍ في العواصم الغربية التي طالما اكتفت بالتعبير عن “القلق”، والإدانة بينما تنهمر المعاناة على المدنيين في الفاشر وغيرها من المدن.
ومع تصاعد التفاعل الخارجي، من أحزاب ومنظمات إنسانية وصحفيين أحرار، باتت صورة الحرب السودانية تخرج من دائرة التعتيم إلى فضاء الوعي العالمي، مما يجعل من الصعب على أي قوة أن تفرض تسوية تتجاهل دماء الضحايا أو تبرئ المعتدين، وتسعيذ للضغط لقبولهم في معادلة سياسية تبدو مستحيلة.
هذا الزخم الشعبي والحقوقي هو اليوم السند المعنوي الأوسع للدولة السودانية في معركتها السياسية والإعلامية، وهو ما يفسر تمسك القيادة بشروطها الوطنية في أي هدنة أو تسوية، ورفضها لأي اتفاق لا يضمن العدالة والمحاسبة وإنصاف المكلومين. - قراءة في المبادرة الأميركية
المبادرة التي دفعت بها واشنطن جاءت تحت عنوان “هدنة إنسانية”، وزخم إعلامي دون عون حقيقي،سعت عمليًا بمسعى يرمي لتجميد الصراع دون معالجة جذوره. وربط الخرطوم قبولها بتجريد المليشيا من سلاحها يعني رفض تحويل المسألة الإنسانية إلى مدخلٍ لتسويةٍ سياسيةٍ غير متكافئة.
فالقيادة السودانية تدرك أن أي هدنة دون رقابة وضمانات ميدانية ستُستخدم لإعادة التموضع والتسليح، ما يطيل أمد الحرب ويقوّض فرص الاستقرار الحقيقي من خلف تجارب فاشلة مع التمرد على ايام اتفاق جدة . - بين السياسة والمبدأ
ترى الخرطوم أن أي هدنة تسبق خروج المتمردين وتسليم سلاحهم تُعد مكافأة للجاني على حساب الضحايا، وتُشرعن الوجود غير القانوني للمليشيا داخل المدن. وتؤكد مؤسسات الدولة أن العدالة والمساءلة عن الجرائم والانتهاكات لا يمكن تجاوزهما باسم “السلام” أو “الإنسانية”، فذلك سيقوّض أسس الدولة ويُفرغ القانون من مضمونه في سياق حملة من الخيانة والعمالة هي حصان المشروع الخارجي ورهانه الخاسر.
الموقف الصادر اليوم ليس انفعالًا ميدانيًا، بل تعبير عن وعي سياسي تراكمي، بدأ منذ انكشاف طبيعة التمرد كأداة تفكيك وظيفية تخدم أجندات خارجية. ومن ثم فإن الشروط التي طرحها المجلس تمثل حدًّا فاصلًا بين مبادرات التسوية ومشروعات الوصاية.
الرسالة المركزية من البيان تقول بوضوح:
“لا هدنة قبل انسحاب المليشيا من المدن، ولا سلام قبل استعادة سيادة الدولة كاملة.” - دلالات اللحظة السياسية
- تعزيز الثقة الشعبية بالجيش والقيادة بعد موقف صلب يعبّر عن الحس الوطني العام ومشروع الصمود من فاشر السلطان.
- كسر العزلة السياسية عبر تفاعل إيجابي مع الوساطة الأميركية دون التفريط في الثوابت.
- إعادة ضبط ميزان العلاقات الدولية، إذ لم يعد السودان في موضع المتلقي، بل أصبح يفرض شروطه على طاولة النقاش.
- تثبيت فكرة أن الحل سوداني وقومي خالص، وأن الهدنة ليست غاية بل وسيلة لاستعادة الدولة من براثن المليشيا.
خاتمة
السودان يكتب مرحلة جديدة من الصراع السياسي والعسكري، عنوانها الصلابة في الموقف والسيادة في القرار.
فمن جهة، يمدّ يده للحوار دون أن يفرّط في ارضه وكرامته، ومن جهة أخرى، يواجه التمرد بالميدان حتى آخر موقع دنّسه.وإذا كان موقف مجلس الأمن والدفاع اليوم قد وجّه رسالة للداخل والخارج معًا، مفادها أن السودانيين وحدهم يقررون شكل السلام وزمانه، وأن أي هدنة لا تمر عبر بوابة السيادة الوطنية لن تجد موطئ قدم في أرضهم. وهذا يمثل الإرادة الوطنية مجتمعة امام المشروع الاجنبي . القوات المسلحة والمشتركة وجموع الشعب ، جمعيهم صفا موحدا لاجل دارفور واخراج الغزاة واستعادة الفاشر وكل موضع من قبضة التمرد. هذا هو الموقف الذي يشبه جيشنا ودولتنا وقيادتنا .. ليس من سبيل للتركيع او الاستسلام مهما كلفنا ذلك . فلا سلام يُبنى على أحلام الغزاة بتزييف العدالة، وتدمير الوطن ولا هدنة تُفرض على حساب السيادة والامن القومي ومصالح الامة،
⸻
٤ نوفمبر ٢٠٢٥م



