بقلم : يحي محمود بن جنيد – رئيس مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض
إن صراع التحرز بالديمقراطية يأخذ طريقا وعرا في الآونة الأخيرة نتيجة ما يلاحظ من توجه نحو تقسيم العالم إلى ديمقراطي وغير ديمقراطي، برغم أن أكثر المنظرين والباحثين في الشأن الديمقراطي غير متفقين على مفهوم محدد، ولا يركن أغلبهم على مبدأ الفصل والتطبيق، بل على جماليات النظريات والأفكار المنبثقة عن آراء حول أسس تكوين الديمقراطية.
إن أفضل ما يعبر عن الاختلاف ويبرز عدم الوضوح لمفاهيم الديمقراطية في الآونة الأخيرة أن تذكر نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس في مؤتمر عن الديمقراطية يُعقَد في عقر دارها الولايات المتحدة الأمريكية، بأن الديمقراطية في سبيلها إلى الانهيار وأن يصرح أستاذ يعمل في جامعة ديوك الأمريكية في المؤتمر نفسه بأن هناك مشكلات تتعلق بديمقراطية أمريكا أكبر من مشكلات أي ديمقراطية غربية أخرى.
هذه الإشارات المختزلة التي وردت في كلماتٍ ألقيت في مؤتمرٍ عن الديمقراطية تنمُّ عن عدم القدرة في السيطرة على تحديد مفهوم هذا المصطلح، وتؤكد صعوبة ادعاء دولة أنها تتبع هذا النهج مع فريق من دول العالم، في مقابل استبعاد فريق آخر ووصمه بعدم دعوته إلى ذلك المؤتمر بعدم الديمقراطية.
ويقودنا ما طرح إلى فحص مفهوم الديمقراطية، وهل تتوافق خصائصها ومفاهيمها عند من تعرضوا لها بالبحث والدراسة، ونستدعي هنا أبسط صورة لها، وهي أنها منظومة أفكار تناسلت عبر قرون في عالم الغرب، معاييرها حكم الشعب لنفسه، وتوفير الاختيار له لتحقيق حكم رشيد يكرس الرفاهية والعدالة، ويقود إلى القضاء على المفاسد، وتوفير سبل العيش الكريم، وعند الاحتكام إلى الواقع سنجد أن هناك أنظمة كثيرة في العالم حققت فعلياً هذه المعايير على نحو مختلف يتوافق مع القيم والأوضاع الاجتماعية والعقائدية التي تسود فيها، غير أنها لم تحظ بقبول الغرب، الذي يصر على تطبيق قواعدها التي اختارها، وتـتوافق مع مسيرته التاريخية، التي وصل إليها عبر مراحل زمنية طويلة انتهى إلى اتخاذها عمادًا لحكمه، وبنى عليها مساقاته، وجعلها معيارا في أحكامه على مناهج الحكم الأخرى في العالم، وعمل على فرضها لتكون المنهج الوحيد المقبول في تحقيق العدالة، وسمة التحضر، وعلامة الرق ي، متجاوزا الاختلاف بين المجتمعات، وتراتبياتها في النمو والعقائد والقيم وطرائق تحقيق العدالة، مخلا بمسألة ذات قيمة عالية تتمثل في: مشكل التوافق المجتمعي على قبولها كإفراز غربي محض.
ولما كان الغرب هو المتسيد بقوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية والثقافية، فقد كرسها؛ أي: الديمقراطية، لتكون حلما وأملا لمنظرين من الأمم الأخرى لتطبيقها في بلدانهم وعلى شعوبهم، دون اكتراث بمقدار التـنوع والاختلافات.
وفي مقابل التبشير بالديمقراطية والسعي وراء جاذبيتها الشكلية، تصدى دارسون آخرون حتى من الغرب نفسه، لنقدها وتحليل مرتكزاتها، وسبر واقعها من خلال الأفعال.
وعندما نتابع واقع التطبيق المعلب للديمقراطية الغربية سنجد أن الفشل كان هو الناتج لما حصل في دولٍ تعرضت للغزو، وتمت السيطرة عليها عسكريا، ولجأ الغازي إلى فرض النظام الديمقراطي المعلب عليها. ونستدعي هنا حالة أفغانستان التي غزيت بحجة دحر الإرهاب، والعمل على تشكيل حكم ديمقراطي فيها.
إن الشيء المؤكد أن محاولة إقصاء نظم الحكم الأخرى التي لا تتوافق مع الديمقراطية الغربية سوف يؤدي إلى حالة انقسام في المجتمع الدولي، وعودة إلى الحرب الباردة، وإشعال صراع بين معسكرين أوجدهما المن ظر الغربي الذي لا يرى ديمقراطية غير ديمقراطيته متجاوزا الحقائق الأولية، وهي أن التنوع والاختلاف سمتان من سمات البشر عبر العصور، وشكل الحكم لا يمكن أن يكون موحدا في هذا العالم.
لقد أوضح تقرير صادر عن وازرة الخارجية الصينية، أشار إليه موقع (جلوبال تايمز في 5 ديسمبر 2021م) إلى أن الديمقراطية قيمة مشتركة بين الناس أجمعين، وأنها حق لجميع الأمم، وليست امتيا از مقصورا على قلة من الناس، وأنها تظهر في أشكال مختلفة، ولا يوجد نموذج واحد لها يناسب جميع الأمم، وسيكون من غير الديمقراطي تمامًا قياس معايير الأنظمة السياسية المختلفة بمعيار واحد، أو النظر إلى الحضارات السياسية المختلفة من زاوية واحدة، وأن حق اختيار نظام الدولة السياسي يرجع إلى شعب هذه الدولة وحده.
وفي الختام:
إن ما يجب أن يؤبه به بشأن الديمقراطية، هو مسألة الحكم الرشيد، المتمثل في الحفاظ على كرامة الإنسان، وتوفير سبل العيش الكريم له، وتحقيق العدالة، ومحاربة الفساد، وإشاعة الأمن والسلم الاجتماعيين، والرقي بالمجتمع إلى مرحلة التجانس المبني على المساواة، أما شكليات الديمقراطية فلا حاجة إليها، إن لم تتحقق المعايير السابقة.
• نشر ب : CGTN