
منذ أن اشتعلت الحرب في السودان في أبريل 2023م، أصبحت البلاد مسرحًا لصراع داخلي دموي، تتنازعه الأطماع الخارجية والمصالح الدولية والإقليمية. لم يكن النزاع مجرد مواجهة بين جيش نظامي ومليشيا متمردة و إن بدا في ظاهره كذلك، بل تحوّل إلى ساحة تتقاطع عندها الأجندات و المصالح الإقليمية والدولية، وتتشابك فيها خيوط الاستراتيجيات. ومن هنا بدأت القوى الإقليمية والدولية تنسج رواياتها، وتُصدر بياناتها، وتطلق مبادراتها، كلٌّ حسب زاويته وحساباته. وفي هذا السياق جاء بيان الرباعية في 12 سبتمبر 2025م، ثم تصريحات مسعد بولس في أديس أبابا في 18 سبتمبر2025م. كل هذه المواقف اذا ما استعرضنا معها تعليقات الرئيس البرهان بالدوحة على بيان الرباعية؛ تعكس صورة متعددة الأبعاد لما يمكن أن نسميه “ألسنة أزمة السودان” التي تمتد إلى ما هو أبعد من حدود الخرطوم وأطراف دارفور، لتصل إلى العواصم الكبرى والدوائر الإقليمية المتشابكة.
إن البيان الذي أصدرته الرباعية لم يكن بريئًا في مقاصده، رغم لغته و موضوعه الذي يزعم “حل أزمة السودان”. لقد شغلت نفسها بالأجندة والأهداف والغايات التي تمليها مصالح الأطراف التي صاغته، لا بما يمليه واقع السودانيين. في جوهره، جعلت أزمة السودان مادة أولية للتوظيف السياسي والاستراتيجي. بدا وكأنّ الحرب السودانية صارت وسيلة تُحمل عليها مشاريع الرباعية وتطلعاتها، لا غاية في ذاتها لحل الأزمة.
فالبيان في سطحه يتحدث عن السلام والمساعدات الإنسانية وحماية المدنيين، لكنه في عمقه يخدم أولويات أخرى منها تثبيت النفوذ، إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية، وحماية مصالح القوى الكبرى. الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ربطت مصالحها المباشرة في المنطقة بمصالح إسرائيل حتى و لو لم تشر الى ذلك او تسفر به جهرة، لكن كل مواقفها و افعالها انما تدل على ذلك و تؤكد عليه. ومن هنا أصبحت أزمة السودان انعكاسًا لهذه العلاقة الوثيقة؛ فكلما تداخلت أجندة واشنطن مع حسابات تل أبيب، تحوّل السودان إلى ساحة اختبار وميدان نفوذ.
وتتضح طبيعة “تركيبة” الرباعية و”خلطتها” من خلال أعضائها الذين يتوزعون ما بين “فاعل أساسي ظاهر” هو الولايات المتحدة الأمريكية، “فاعل أساسي مستتر”هو إسرائيل، التي لا ترد بالاسم ولكنها حاضرة في كل الحسابات، “دولة وظيفية” هي الإمارات، بما تقدمه من تمويل أو دعم سياسي يتحرك وفق مصالحها المرتبطة بالمحاور الدولية، و”حلفاء إقليميون”هما مصر والسعودية، وهما في آنٍ معًا دولتان مؤثرتان ومتأثرتان بما يجري، وفق حسابات الأمن الإقليمي، واعتبارات الجغرافيا السياسية والجيوستراتيجية.
إن قراءة متأنية لهذا البيان تكشف أن السودان كان موضوعًا ثانويًا في النص، بينما كانت المصالح الإقليمية والدولية هي الموضوع الأساسي.
أما زيارة مسعد بولس – مستشار الإدارة الأمريكية – وتصريحاته في أديس أبابا بتاريخ 18 سبتمبر 2025م، فقد جاءت لتؤكد أن الأزمة السودانية لم تعد ملفًا محليًا أو حتى إقليميًا فقط، بل صارت عقدة في شبكة العلاقات الدولية. بولس تحرك ليجمع الخيوط المتناثرة و يعمل على تشبيك الدوائر من المنظمات الدولية، الاتحاد الإفريقي، المنصات الإقليمية، والمبادرات القائمة. الهدف لم يكن البحث عن حل سوداني صرف، بل بناء إطار تنسيقي دولي يجعل من الأزمة منصة للتعاون، وربما أيضًا للتنافس يعمل لخدمة اجندة الخارج قبل الداخل السوداني.
أكد بولس أن: “الرباعية ليست بديلًا عن بقية المبادرات، وإنما منصة داعمة”. هذه العبارة، على بساطتها، تكشف جوهر المسعى الأمريكي؛ إدارة التعددية في المنابر المعنية بالسودان، وربطها جميعًا بخيط واحد يمر عبر واشنطن. كما شدد على أن القرار النهائي والسياسات المرتبطة بالسودان يجب أن تنبع من إرادة السودانيين، لكن مع دعم المجتمع الدولي.
وهنا تكمن المفارقة؛ الخطاب يقرّ بالسيادة السودانية من حيث الشكل، لكنه يضع المجتمع الدولي في موقع “الوصي” أو “الداعم الذي لا غنى عنه”، بما يعني أن السودان سيظل أسيرًا لمنصات الخارج، ما لم يفرض هو رؤيته الخاصة.
غير أن قراءة البيان الرباعي وتصريحات بولس في أديس أبابا تكشف وجهًا آخر للمسألة؛ إذ بدا وكأنها منحازة لمليشيا الدعم السريع، أو على الأقل تسعى إلى مساواة غير منصفة بين الجيش السوداني الوطني، الذي يدافع عن وحدة البلاد وسيادتها، وبين مليشيا تمردت على جيشها وشرعية دولتها. لم تراع تلك البيانات في سبيل حلها المزعوم للأزمة، حجم الخراب والدمار الذي ألحقته المليشيا بالمدن والبنى التحتية، ولا الانتهاكات والجرائم المروعة التي ارتكبتها بحق المواطنين العُزّل، ولا استعانتها بالمرتزقة الأجانب لقتال بني جلدتها. فكيف للمواطن السوداني أن يتقبل من جديد أن يكون لتلك المليشيا، أو لداعميها ومسانديها، أي دور في الحياة السودانية، سواء كان سياسيًا أو أمنيًا أو عسكريًا أو بأي صورة من الصور؟
في مقابل هذه التصورات الدولية والإقليمية، جاءت ردة فعل الفريق أول عبد الفتاح البرهان صريحة وواضحة، كاشفة عن رفض كامل لأي محاولة لفرض أجندات من الخارج، و من جملة ما صرح به نركز في الآتي:
رفضه البيان وتأكيداته بعدم الالتزام به، حيث صرّح بأن بيان الرباعية “لا يعنينا”، وأن أي مبادرة لا يكون السودان طرفًا أصيلًا في صياغتها ومخرجاتها ليست ملزمة له ولا للشعب السوداني.
ورفضه كذلك، أي فرض لأجندة خارجية، حيث أوضح أنه أبلغ الولايات المتحدة مباشرة بأنه لن يقبل بأي حلول تُفرض من الخارج أو تُصاغ خارج الإرادة الوطنية، وأن السودانيين وحدهم هم أصحاب الحق في تحديد مستقبلهم.
مطالبته بحفظ السيادة والوحدة، حيث اشترط أن أي جهد لوقف الحرب أو إنهاء النزاع يجب أن يمر عبر الحفاظ على سيادة السودان، وحدة أراضيه، وصون مؤسسات دولته الوطنية. وهو بذلك يضع خطوطًا حمراء لا يمكن لأي طرف خارجي تجاوزها.
إن ردة فعل البرهان، على شدتها ووضوحها، ليست مجرد موقف عابر، بل هي رسالة مزدوجة تقول للخارج أن السودان لن يكون ساحة مستباحة للأجندات، وتؤكد للداخل أن الحفاظ على السيادة والوحدة هو جوهر المعركة التي يخوضها الجيش.
رغم كل ما سبق، فإنّ من بين سطور بيان الرباعية، وتصريحات بولس، وتدعيماً بتعليقات الرئيس البرهان، يمكن انتقاء واستخلاص مبادئ تشكل قاعدة لخارطة طريق سودانية خالصة. هذه المبادئ هي التي تنفعنا وتلزمنا كسودانيين و يجب تبنيها، وتتلخص في الآتي:
سيادة السودان، وحدته وسلامة أراضيه ضرورة أساسية للسلام والاستقرار. هذه ليست مجرد عبارة، بل هي صمام الأمان الذي يحمي الوطن من التفكك والتجزئة.
الأولوية للمساعدات الإنسانية مع ضرورة الفصل التام بينها وبين حسابات الحرب. فلا يجوز أن تُستخدم المساعدات ذريعة لتقوية طرف على حساب آخر، فهذا استغلال غير أخلاقي لمعاناة المدنيين.
مستقبل الحكم في السودان لا بد أن يقرره السودانيون أنفسهم عبر عملية انتقالية شاملة وشفافة، بعيدة عن هيمنة الأطراف المتحاربة. هنا تكمن جوهرية الإرادة الشعبية.
وقف الدعم العسكري الخارجي، كما ورد في البيان، مسألة جوهرية. فاستمرار تدفق السلاح يعني استمرار النزيف وإطالة أمد الحرب. إنهاؤه ضرورة لإنهاء النزاع.
منع استغلال النزاع من قبل الفاعلين الإقليميين أو المحليين الذين يتربصون لتحقيق مكاسبهم الخاصة على حساب معاناة السودان.
هذه النقاط يمكن أن تشكل أساسًا لإطار سوداني ملزم، تُبنى عليه المبادرات الوطنية، ويُفرض على الخارج الاعتراف به.
إن أزمة السودان لم تعد مجرد حرب داخلية، بل تحولت إلى بؤرة تتنازعها القوى الدولية والإقليمية. بيان الرباعية كشف عن الأجندات المستترة، جولة مسعد بولس أبرزت محاولة تشبيك المنابر وربطها بالاستراتيجية الأمريكية، وتصريحات البرهان في الدوحة جسدت الإرادة الوطنية بالرفض لحلول وأجندات الخارج والتمسك بالسيادة وسودانية الحلول. هذه الألسنة الثلاثة – الرباعية، مسعد، البرهان – تمثل وجوهًا مختلفة لنفس الأزمة تتناولها ألسنة متعددة من زوايا مختلفة، لكنها تقدم لنا كسودانيين تنبيهاتٍ مهمة وبليغة مفادها أن الحل الحقيقي لن يأتي إلا من الداخل، وأن السيادة ليست شعارًا بل شرط بقاء، وأن المساعدات لا يجب أن تتحول إلى أدوات حرب.
وحتى يكتمل المشهد الوطني، فإنّ القوى المدنية السودانية تتحمل مسؤولية تاريخية في بلورة مشروع سياسي جامع، يوازي التضحيات العسكرية، ويؤسس لانتقال مدني ديمقراطي حقيقي. فبدون حضور فاعل لهذه القوى، سيظل الحقل فارغًا أمام الخارج ليملأه بما يشاء. إن استعادة المبادرة الوطنية لا تكون فقط عبر البندقية أو عبر الرفض الدبلوماسي، بل أيضًا عبر بناء جبهة مدنية موحّدة تضع مصلحة الوطن فوق كل الاصطفافات.
إن ما ينفعنا ويُلزمنا هو أن نأخذ من كل هذه البيانات ما يخدم وحدتنا وكرامتنا ويعزز سيادتنا، وأن نطرح نحن خارطة طريق سودانية خالصة، نُلزم بها الجميع، ونُحيل كل المنابر والمنصات الدولية والإقليمية إلى موقع الداعم لا المتحكم. حينها فقط يمكن أن نحاصر الأزمة حتى تنطفئ نيران الفتنة، ليبزغ فجر السودان الجديد موحدًا، حرًا، مستقلًا، وفاعلًا في محيطه الإقليمي والدولي.
السبت 20 سبتمبر 2025م